سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

الحاضنة الروسية ومشكلات الإقليم

ينتهي عام 2018 على وقع قرار الرئيس الأميركي الانسحاب من سوريا وتداعياته المرتقبة. وإذا رست سياسة إدارة الرئيس ترمب على ما هي عليه اليوم، تبرز أسئلة عدة أكثرها إلحاحاً هو: هل يمهد هذا القرار لتغيير في الموقف الأميركي من إيران، الشريك الرئيس للنظام السوري؟ والثاني، وهو لا يقل أهمية عن الأول: هل تخلت واشنطن لروسيا عن الشرق الأوسط وسلمتها رعاية شؤونها؟ والثالث: هل بمقدور موسكو تحمل شؤون وشجون هذه المنطقة الصعبة والمعقدة ومعالجتها؟
يصعب فهم فرحة مناهضي واشنطن بهذا القرار، لأنه من السذاجة الاعتقاد أن روسيا ستحمل في جعبتها حلولاً لملفات الإقليم المتداخلة في تعقيداتها. وعلى الرغم من إيمان البعض ببراعة الدبلوماسية الروسية وحنكة الرئيس بوتين وحدة العداء لأميركا والغرب بعامة، فإن الحذر والموضوعية ضروريان.
بدايةً، لا بد من جلاء ناحية غامضة في قرار الرئيس الأميركي التخلي عن حليفه الرئيس إذا لم نقل الوحيد على الساحة السورية وهم الأكراد: هل هذا القرار هو وليد مزاجية عابرة لترمب، أم أنه يعبر عن أولويات استراتيجية أميركية تتجاوز ترمب الرئيس إلى موقع أميركا في النظام الدولي وأهمية الشرق الأوسط لمصالحها، وذلك رغم الاعتراضات الوجيهة من أكثر من جهة مؤيدة أو معارضة له، أبرزها وزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس؟
في المقابل، هل تحمل روسيا رؤية كبرى للشرق الأوسط، وهل هي مستعدة لوضعه تحت مظلتها الدبلوماسية والأمنية، أم أن القضية هي أيضاً مجرد توجه شخصي للرئيس بوتين مدفوع بطموحات معينة ورداً على إخراج موسكو من المنطقة؟
لا توجد إجابات سهلة ومقنعة عن هذه الأسئلة، وأغلبها سجالية. وبغضّ النظر عن الذين يتطلعون إيجاباً إلى ترمب شخصاً وإدارةً، أو إلى بوتين زعيماً، فإن استشراف حال العالم العربي تحت المظلة الروسية المقبلة لتحل مكان المظلة الأميركية ولو جزئياً وتثير آمالاً بإحلال «السلام الروسي» مكان «السلام الأميركي»، يكشف أنه لا يوجد أفق مضيء لحجم التحديات في المنطقة. وهذه عينة من تناقضات الإقليم، مجتمعات ودولاً وأنظمةً، لعلها على الأرجح باقية إن لم تنفجر مظلة روسيا وحلفائها في الإقليم.
على صعيد العلاقات بين دول الإقليم الكبرى، ستواجه روسيا إشكالات كبرى في التعامل مع العلاقة بين الصديقتـــــين اللدودتـــــين، تركيا وإيـــــــران، إنْ على الأرض السورية أو حول قضايا الإقليم بعامة.
من المعروف أن روسيا لديها هواجس دفينة حيال الإسلام السياسي بشقيه الإخواني والخميني، في وقت يتنافس فيه هذا الإسلام السياسي عبر طروحات إردوغان التركية وتلك الإيرانية للسيطرة على النظام المركزي في دمشق، والذي تريده موسكو أسدياً «مدنياً»، علمانياً. بالمحصلة، لن تأمن موسكو لهلال شيعي خميني ولا لهلال إخواني إردوغاني.
وتخشى موسكو أيضاً متغيرين، الأول هو عودة الود المفقود بين أنقرة وواشنطن والحلف الأطلسي، ما قد يعيد تركيا حلقة صلبة ومعاندة داخل المنظومة الغربية المناهضة لموسكو. والثاني أن تدفع مزاجية ترمب إلى تغيير ما في العلاقات بين واشنطن وطهران، بحيث يتم تعويم المنطق الذي تحكّم في الإدارة الأميركية السابقة حول دور إيران الكابح لجموح المتشددين من السُّنة وفق توصيف أوباما، وأنها لاعب عقلاني يتمتع بضوابط بينما التنظيمات الإرهابية متفلتة وعدمية.
أما القضية الفلسطينية فهي باقية محورية ويصعب التوهم بقدرة روسيا على التقريب بين «فتح» و«حماس» من جهة، وإيجاد تسويات ومخارج للشرعية الفلسطينية المأزومة، فكيف الحال بقدرتها على الجمع بين إسرائيل والفلسطينيين على طاولة مفاوضات لفرض حل الدولتين؟
وينبغي ألا يغيب عن المشهد التوتر بين تل أبيب وموسكو على خلفية الوجود والدور الإيراني في سوريا ولبنان.
إضافة إلى كل ما سبق وفي مقدمه تأتي مسألة تراجع الدولة الوطنية، وإعادة بناء العقد الاجتماعي بعد تمزق النسيج الوطني وتعدد الولاءات ما فوق الحدود الكيانية وما تحتها حتى باتت الأوطان طاردة لأهلها محكومة بهاجس الهجرة قبل أي شيء آخر.
وقياساً على ما يجري داخلها، لا تملك روسيا أمام هذا النوع من المشكلات البنيوية أكثر من مدّ سلطتها تحت شعارات متوهَّمة حول تحالف الأقليات أو ما شابهه.
إن ظاهرة تراجع الدولة وواقع تعدد الولاءات باتا يحجبان أهم مشكلتين يواجههما العالم العربي وهما: ندرة الموارد المائية، وإمكانية تفشي أسلحة الدمار الشامل من نووية أو كيماوية أو جرثومية وغيرها.
إن نحواً من 60% من مصادر المياه العربية من خارج حدوده، فضلاً عن توالي سنوات الشحّ وتفشي التلوث ونضوب الينابيع وتوسع مساحات التصحر، وأثر ذلك على البيئة والثروات الطبيعية، إضافة إلى حركة السكان في الإقليم، ما يفسر هشاشة الأمن القومي العربي بجوانبه كافة بدءاً من الاقتصاد والاجتماع والثقافة وصولاً إلى السياسة والأمن الصلب.
إلى هذا، يبقى التجاذب الحاد بشقيه السياسي والمذهبي في المنطقة هو المحفز الرئيس لإمكانية تفشي أسلحة الدمار الشامل، إضافة إلى تمكين الأنظمة المستبدة وتجديد شبابها على وقع ما شهدناه بعد حراك الربيع العربي.
في السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن سنوات قليلة تفصلنا عن انتهاء مفاعيل الاتفاق النووي بين إيران ودول الـ«5 + 1» ونعود بعدها إلى رغبة دول بالمنطقة في امتلاك قدرات نووية.
هذه عينة من التحديات التي سوف تواجهها الحاضنة الروسية الجديدة وغيرها الكثير، ويبقى أن الدبلوماسية الروسية قد تكون نجحت حتى الآن في عقد تسويات، إلا أنها ربما تبقى غير مؤهلة لتكون بديلاً ناجحاً للولايات المتحدة على الرغم من كل الإخفاقات الأميركية في المنطقة.