طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

جرائم لا تعرف الموت

عند تقييم المبدع، هل نستطيع أن نفصل بين الإنسان والفنان؟ ربما يرتكب الإنسان في حياته أخطاء، بالضرورة تخصم من رصيده الفني.
قال يوماً الشاعر الكبير كامل الشناوي عن عبد الحليم حافظ، إنه يصدق فقط عندما يغني.
هل نحاسب عبد الحليم إذن على ذلك؟ بالطبع هناك جرائم كثيرة نتجاوز عنها، ومنها الكذب، الذي نصفه أحياناً بالأبيض، طالما لم يؤذِ أحداً.
على الجانب الآخر، لدينا جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا ينهيها الموت، مثل الشاعر الكبير بابلو نيرودا، التشيلي الجنسية، الذي قال عنه غبرايل غارسيا ماركيز، إنه أكبر شعراء القرن العشرين وبكل اللغات. نساء تشيلي للمرة الرابعة يرفضن منذ نحو 18 عاماً، أن يطلق اسمه على مطار العاصمة (سانتياغو)؛ لأنه أجرم في حق النساء، حتى ابنته التي ولدت مريضة لم يحضر جنازتها؛ بل اعترف بأنه اغتصب فتاة وباح بكل التفاصيل، وكيف أنها رفضت ممارسة الجنس فأجبرها عنوة. الفتاة الضحية من سريلانكا، اغتصبها عندما كان يعمل دبلوماسياً هناك. نيرودا حصل على نوبل من قبل، إلا أن تلك الفعلة ربما تجاوز عنها المحكمون في أهم جائزة عالمية، ولكن نساء تشيلي لم يغفرن، ولهذا اقترحوا اسم التشيلية غابريل ميسترال، الحائزة أيضاً نوبل، ليحمل مطار العاصمة اسمها.
نيرودا رحل قبل 45 عاماً، الناس من الممكن أن تتسامح في بعض الأخطاء الشخصية، مثل تعاطي المخدرات أو حتى التزوير. ولكن جرائم الاغتصاب والقتل والخيانة للوطن، تظل تلاحق الفنان حتى بعد نهاية العمر.
لديكم المخرج رومان بولانسكي، الفرنسي، البولندي الجنسية، الذي يبلغ الآن 85 عاماً، ولا يزال يمارس الإخراج، حصل على كثير من الجوائز مثل «الأوسكار» عن «عازف البيانو»، وسعفة «كان» ودب «برلين» وغيرها، إلا أنه مطارد ولا يستطيع العودة لأميركا، لاتهامه بجريمة اغتصاب لقاصر قبل نحو 40 عاماً. في بعض المهرجانات عندما يطرح اسمه للتكريم تثور كثير من جمعيات حقوق الإنسان، وفي كثير من الأحيان يتم سحب التكريم.
لديكم جريمة أخرى تدخل في إطار الوشاية، واجهت المخرج الأميركي إيليا كازان، الذي قدم روائع السينما الأميركية، ومنها «عربة اسمها الرغبة»، إلا أنه عند تسلمه جائزة الإنجاز عن تاريخه الحافل من «الأوسكار» عام 1999، وكان يقف وقتها على مشارف الـ90 من عمره، اشتعلت صالة الاحتفال بالاستهجان؛ لأنه في الخمسينات من القرن الماضي وشى بزملائه، الذين كانوا معه أعضاء في الحزب الشيوعي، فيما كان يعرف وقتها أثناء الحرب الباردة، بجريمة «المكارثية»، نسبة إلى السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي، الذي اعتبر أن الانضمام لهذا الحزب جريمة، وكان من بين من وشى بهم شارلي شابلن.
بالطبع في الستينات سقط هذا الاتهام، إلا أن الناس لم تنسَ، ولا حتى من لم يعاصروا هذا الزمن تسامحوا مع كازان.
هل من الممكن أن نعزل الفنان عن سلوكه؟ نقيم الإبداع من دون أن نضع في الحساب الحياة الشخصية؟ الأمر في الحقيقة نسبي. مثلاً: توفيق الحكيم كان مشهوراً عنه البخل، إلا أن هذا السلوك لا يؤذي أحداً ربما سوى الأصدقاء. أيضاً بليغ حمدي لم يكن يلتزم بالمواعيد، وعبد الوهاب كان وسواساً، وأنور وجدي كثيراً ما صنع مكائد لزملائه حتى يظل في المقدمة. كل ذلك وغيره من الممكن أن تغفره الناس، إلا أن الخيانة والاغتصاب والقتل، تظل تلاحق الفنان حتى بعد الموت، ولو كان أشعر الشعراء (نيرودا).