يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

سوريا والانسحاب الكبير: مواقف ودلالات

لم يكن قرار ترمب بلا مقدمات أو مرتجلاً، وإن كان مفاجئاً على مستوى التوقيت واللغة الحاسمة، وهو ما يفسر مراجعات شخصيات كبرى في إدارته لقراراته السياسية المدوية ذات الطابع الشعاراتي الحاد لتهذيبها وإعادة طرحها بشكل ناعم ومتدرج، حيث توالت التصريحات بأنه انسحاب تدريجي مبني على وضعية تنظيم داعش اليوم.
قرارات ترمب واللغة التي يغلفها بها تنتمي إلى حزمة مفاهيمية سياسية جديدة منذ توليه الرئاسة نابعة من شخصيته كرجل شعبوي يرفع شعار «أميركا أولاً»، ما يعني إعادة النظر في كل المبادرات العسكرية الخارجية ذات الكلفة الاقتصادية العالية والقيمة السياسية المتدنية، إضافة إلى قناعة ترمب ومن قبله عدد من مراكز الأبحاث التي تؤكد، حسب عبارة مركز «راند» في أحدث دراساتها وتوصياتها الاستراتيجية، «إرغام العدو وكيف يمكن الانتصار عليه دون تدخل عسكري»، بمعنى تشكل قناعة راسخة لدى ترمب بأن تأثير العقوبات الاقتصادية والنبذ الدبلوماسي قد يؤتي أكله بشكل أكثر تأثيراً من التدخل العسكري المباشر، ووجهة النظر هذه وإن عبرت عن ذاتية وبراغماتية أميركية حادة إلا أنها تتجاهل أن فوضى المنطقة وانتعاش منطق الميليشيات وانبعاث تنظيمي «داعش» و«القاعدة» بعد الانسحاب الكبير يهدد أمن العالم، والولايات المتحدة في مقدمة الدول، بسبب أن عودة هذين التنظيمين الإرهابيين إلى الفاعلية يعني إتاحة الفرصة لهما لاستهداف العالم الغربي عبر الخلايا النائمة والذئاب المنفردة.
فيما يتعلق بالحالة السورية، فنظام الأسد من جهة، والثائرون عليه من جهة أخرى كانوا عاجزين عن تحقيق تقدم في النزاع المسلح بينهم إلا بعد تدخل أطراف خارجية (روسيا وإيران و«حزب الله») لصالح النظام، ودول إقليمية، على رأسها تركيا وقطر، لصالح التنظيمات المسلحة، وهو ما يمكن قوله على مستوى السيطرة المستقبلية على حكم البلاد وبسط النفوذ مجدداً.
الإشكالية الجديدة في الحالة السورية، التي تنبه لها الأميركيون، هي أنها معادلة صفرية، حيث التبدل الدائم في خطوط المعركة ومواقف القوى الفاعلة على الأرض، سواء في استهدافها أو قدرتها على السيطرة على المناطق التي تستحوذ عليها، وصولاً إلى موقفها المبدئي أو المتغير من النظام أو من الفاعلين على الأرض، كما هو الحال بين القوى الكردية وتركيا أو التنظيمات المعادية للنظام دون تنظيم داعش، أو تلك التي تحلم بالسيطرة على مناطقها دون الاكتراث بما يجري خارج إقليمها، وهو ما يعني أن الثورة السورية تحولت من معركة واضحة إلى فوضى متعددة الأطراف وأهواء سياسية وحتى عسكرية متباينة، ويمكن القول إن أغلب الطوائف والمجموعات المسلحة أو تلك التي تؤمن بالتغيير بالعنف هي جزء من تلك الفوضى السورية («حزب الله» و«داعش» والتنظيمات المنشقة عن «القاعدة» والمقاتلون المرتبطون بمناطق الثورة والأطراف والأكراد الذين يطمحون للانفصال)، وكل فصيل ثمة من يدعمه ويسلحه وحتى من يتجاهله على ساحة المعركة لأنه يستهدف طرفاً أقوى منه، كما رأينا في طرائق استهداف النظام السوري أو تركيا أو روسيا لمجموعات دون غيرها، بحيث لا يمكن تحديد سيناريوهات المستقبل بشكل حاسم كما هو حال التقدم العسكري، فكلها احتمالات مفتوحة من انهيار النظام الذي يبدو أنه اليوم في أفضل حالاته أو استمرار الصراع لأمد طويل، وهو السيناريو الأقرب وصولاً إلى الاحتمال الأضعف وهو إيجاد صيغة تسوية يمكن أن يقبل بها الجميع.
تعدد الفاعلين على الأرض وتعدد الممولين والوكلاء والمناصرين وضع الحالة السورية في استثناء، واستمرار الصراع طوال هذه المدة، وتهجير الأعداد الهائلة من السوريين في كل أصقاع الأرض، صيرها حالة نزاع غير مسبوقة، ومن يتابع تقارير مراكز الاستخبارات والأبحاث وخزانات التفكير الأميركية يدرك أنها ساهمت في التمهيد لقرار ترمب من خلال توصيفها الوضع السوري بالميؤوس منه، ويمكن الذهاب بعيداً بالقول بأن الحالة السورية ساهمت في إعادة تصدير مقاتلين وكوادر تلقت تدريبات عسكرية وتشربت مفاهيم راديكالية بعد أن عاشت تجربة «دولة الخلافة الداعشية»، وأصبح هؤلاء المقاتلون مصدر خطر دائم للبلدان المتاخمة لسوريا كالأردن أو حتى تلك البعيدة عنها التي يفد إليها المقاتلون الأجانب العائدون إلى بلدانهم.
لنتذكر جيداً وقبل قرار الانسحاب الكبير من قبل الولايات المتحدة كيف هدّد الرئيس الإيراني حسن روحاني، أميركا، بشكل مستفز، بقطع أي نفط من الخليج والسعودية بشكل أساسي، رغم أن هذه الشعارات المترجلة والخطابية من نظام الملالي باتت ممجوجة، لكن «الحرس الثوري» صعد من حدة تهديداته ليهدد بمؤامرات اغتيال في أميركا وأوروبا، وتنشيط الصواريخ الباليستية وتقديم خبراته التخريبية لحلفائه، ما يعني بشكل آخر أن المواجهة الكبرى باتت بين إيران تصدير الثورة وبين الولايات المتحدة التي ترى في هذا النظام التهديد الأول لمصالحها ولأمن حلفائها، وهذا سبب إضافي لأن يلجأ الرئيس ترمب إلى استراتيجية ما يمكن تسميته بتقليص نطاق المواجهة إلى جذر المشكلة «إيران»، وليس إلى تجلياتها الثورية المتمثلة في وكلائها من «حزب الله» إلى «أنصار الله» الحوثي إلى التحالفات مع نظام الأسد.
الأكيد أن نفوذ إيران المتعاظم أجبر الولايات المتحدة والغرب على الانحناء له، لا سيما مع انكفاء هذه القوى على مشكلاتها الداخلية وأزماتها الاقتصادية، التي تقتضي بالضرورة إعادة النظر في كل خيارات التدخل العسكرية المكلفة، وحتى الاتفاق النووي وما جرى حوله من انقسامات كانت جزءاً من خلق المبرر لمناخ تفاوضي تعيد فيه القوى الدولية تقييم قيمة إيران السياسية في منطقة تعاني من خرائب كبرى بعد انتهاء مرحلة «الربيع العربي»، والدخول في ربيع الميليشيات والجماعات التقويضية من تنظيم داعش الذي خدم مشروع الملالي، كما لم يفعل أحد من قبل، ولا ننسى تحالف تنظيم «القاعدة» الذي يستهدف دول المنطقة معه، إلى الأحزاب الشيعية المسلحة التي تناسلت كماً وكيفاً تحت شعار الحرب على الإرهاب، وللأسف وقعت في الفخ القوى السياسية المناهضة للاستقرار في دول الخليج والدول التي قفزت على خرائب ما سمي بـ«الربيع العربي»، في مقدمتها النظام القطري المستميت في تبني مشروع الملالي كداعم مساند لمشروع الإسلام السياسي الذي تسوق له قطر ضمن مشروعها في الاستثمار في المعارضات والأقليات.