أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الفصام الإيراني المثير للجدل

مع استعدادات القيادة في طهران للاحتفال بالذكرى الأربعين للثورة الخمينية، يتساءل عدد متزايد من المواطنين الإيرانيين عما إذا كان الوقت قد حان كي تُغلق بلادهم هذا الفصل من تاريخها وتستأنف المسار كدولة قومية طبيعية.
وكانت الدعوة إلى أن تتجاوز إيران فصل الثورة الخمينية من تاريخها المعاصر، هي «التيمة» الغالبة على موضوع ندوة الشهر الماضي في جامعة وستمنستر في لندن، حيث سُلطت الأضواء على عودة إيران كدولة قومية، باعتبارها حاجة ملحة ومهمة لاعتبارات السلام والاستقرار الإقليميين. كما لوحظ أيضاً، أنه بالمقارنة مع الثورات الأخرى التي اندلعت خلال القرن العشرين، اتسمت الثورة الخمينية الإيرانية بالفشل المزري في جميع المجالات وعلى الأصعدة والمستويات كافة.
وبعد 40 عاماً من اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، تحولت البلاد من دولة لا صناعية ومتخلفة إلى إحدى القوى العظمى العالمية، وأول دولة ترسل البشر إلى الفضاء الخارجي. وكان ذلك بعد هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وفي هذه الأثناء، نجح النظام السوفياتي في «تصدير» آيديولوجيته ونظامه الاجتماعي والسياسي إلى أكثر من 12 دولة حول العالم، تلك التي تمثل ثلث تعداد سكان الأرض، على نحو تقريبي.
كما تمكنت الثورة الماوية في الصين من إحراز نجاحات كبيرة خلال العقود الأربعة الأولى من عمر الثورة. وبحلول عام 1990، أعادت الصين إطلاق ذاتها قوة صناعية ضخمة، واتخذت مساراً خاصاً لتصبح قوة اقتصادية هائلة بحلول عام 2020. ولكن على النقيض من الثورتين الروسية والصينية، فإن الثورة الخمينية في إيران قد أخفقت تماماً في «تصدير» نموذجها الثوري إلى أي دولة في أي مكان، في حين صارت الدولة الإيرانية أكثر فقراً مما كانت عليه في عهد الشاه.
والسبب الرئيسي في ذلك أن الثورة الخمينية قد فشلت فعلاً في إنشاء بنية دولة جديدة ذات مؤسسات حاكمة تحظى بالفعالية والكفاءة والموثوقية. وإثر عجزهم التام عن تدمير الدولة الإيرانية حال تطورها المستمر خلال 5 قرون كاملة، حاول الملالي الخمينيون الجدد تكرار ذلك النموذج الفارسي القديم، من خلال محاولة إنشاء أجهزة حكم موازية يفرضون منها السلطات على البلاد والعباد.
وتختلف أهداف ومصالح هذه الأجهزة الموازية، ناهيكم عن أساليب عملها الغامضة، بشكل صارخ عن أهداف الدولة الإيرانية، الأمر الذي أفضى إلى استمرار التوترات بين الهيكلين، الرسمي وشبه الرسمي.
أما الحجة التي تجد صدى متنامياً في إيران في الآونة الراهنة، فهي أن الوقت قد حان لتفكيك الأجهزة الحاكمة الموازية وإتاحة الفرصة لأجهزة الدولة الرسمية لاستعادة سلطاتها وصلاحياتها الكاملة كوسيلة من وسائل تحقيق المصالح والطموحات القومية في مواجهة المصالح والتطلعات الآيديولوجية.
يقول الصحافي نادر صديقي: «طالما أنه لإيران سلطات موازية وأجهزة حكم، وصناع قرارات، ومنفذون للسياسات الموازية، فلا يمكن بحال مساءلة أو محاسبة أحد على أي شيء في البلاد». والنتيجة الطبيعية أن أولئك الذين يملكون السلطات والصلاحيات لا يتحملون أي مسؤولية، في حين أن الذين يتحملون المسؤولية الفعلية لا سلطات حقيقية لهم.
ومن أبرز الشخصيات الإصلاحية الأخرى، هناك عباس عبدي، الذي يحذر أقرانه الخمينيين من أن نظامهم الحاكم يعاني من أزمة خانقة وعميقة، وربما بلغ حافة الانهيار السياسي بالفعل. ومرة أخرى، فإن الحل المقترح من جانبه يتمثل في إغلاق ذلك الفصل الثوري من تاريخ البلاد المعاصر والسماح لإيران بإعادة تنظيم الذات كدولة قومية طبيعية. ويقف المؤرخون الإيرانيون الكلاسيكيون عند 5 مراحل محددة، تتعلق بظهور الدولة الجديدة في البلاد التي شهدت اضطرابات سياسية واجتماعية واقتصادية لا حصر لها عبر تاريخها الطويل. المرحلة الأولى هي الغزو، ويتمثل في القوة الجديدة، وهي في الغالب عبارة عن قبيلة من المحاربين، تتمكن من الاستيلاء على قطعة من أراضي البلاد أو على كامل الأراضي.
وتلي ذلك المرحلة الثانية، وهم يطلقون عليها «مرحلة الهيمنة»، وهي عندما تنجح قوة القهر الجديدة في ترسيخ نفسها كقاعدة رئيسية في البلاد. والمرحلة الثالثة تُعرف باسم «مرحلة السيطرة»، وتتميز بالاعتراف بالقوة الجديدة كحاكم بأمره في أي صراع ينشأ على السلطة، الأمر الذي يفضي إلى المرحلة الرابعة، المعروفة باسم «مرحلة الحكم»، وفيها تعمل القوة الجديدة كحاكم نهائي في شؤون الحياة الوطنية. وفي المرحلة الخامسة والأخيرة، تخلق القوة الجديدة «الدولة» من تلقاء ذاتها مع مؤسسات الحكم المطلوبة لضمان استمرارها وتعزيز مصالحها وطموحاتها على المدى البعيد.
واستناداً إلى نموذج التحليل المشار إليه، فإن الثورة الخمينية، باعتبارها القوة الجديدة، قد توقفت تماماً عند المرحلة الرابعة «مرحلة الحكم»، الأمر الذي يعني أنها قد فشلت في القضاء على الدولة القديمة وخلق الدولة الجديدة القادرة على تطوير مزيج خاص من المصالح والطموحات القومية والثورية.
وكانت النتيجة الطبيعية هي حالة الفصام السياسي التي أشرنا إليها، والتي تمنح الانطباع بأن المرء يتعامل مع دولتين، كل منهما تسمى «إيران»؛ إحداهما هي إيران الدولة، والثانية هي إيران الثورة. كما تؤثر حالة الفصام السياسية الإيرانية كذلك على معارضي النظام الخميني. وبشكل مُدرك أو غير مُدرك، فإن أغلب المعارضين يسلكون سلوك القوى الثورية، وإن كان ذلك في مواجهة النظام، وليس سلوك الحركات السياسية القادرة على إدارة دولة قومية طبيعية، والعمل على حل المشكلات التي تواجه المجتمع الإيراني المعقد، في محاولة للخروج من 40 عاماً كاملة من الأزمة الممتدة.
والأنباء السارة في ذلك هي أنه، وربما من واقع الصيرورة الحتمية، هناك ثقافة سياسية جديدة باتت تتشكل داخل المجتمع الإيراني، وهي الثقافة التي ترتبط بصورة غريزية بالسياسات العامة وبالقضايا راسخة الصلة بواقع أوضاع البلاد، بدلاً من الأفكار المجردة المرتبطة وهماً بالطوباوية الثورية.
وعلى مدار العامين الماضيين، شهدت إيران أكثر من 100 حالة احتجاج شعبية من جميع مناحي المجتمع والحياة هناك. كما تعرضت البلاد أيضاً لهزتين كبيرتين تمثلتا في الاحتجاجات العارمة الكبيرة على الصعيد الوطني، التي اشتملت على ملايين المواطنين المتظاهرين في طول البلاد وعرضها.والنقطة المهمة في هذا السياق هي أن كل هذه الاضطرابات والمظاهرتين الكبيرتين كانت مدفوعة جميعها بمطالب لا يمكن أن تستوعبها أو تلتزم بها إلا دولة قومية عادية، وليست جماعة ثورية في عباءة دولة. ولذلك، وعلى أدنى تقدير، فإن مطالب الملايين من المواطنين الإيرانيين تتمثل في استعادة سلطة دولتهم، التي تطالب بدورها بإغلاق الفصل الثوري من تاريخ البلاد.
يقول علي رضا شجاعي زند، المحلل الإيراني من طهران: «تواجه البلدان الأخرى أنواعاً من المشكلات مثل التي نعاني منها في إيران. لكن ذلك لا يفرض الشرعية أبداً على النظام القائم أو يفضي إلى انفجاره».
وما فات السيد شجاعي زند في طرحه هو أن البلدان الأخرى المشار إليها لا تعاني من حالة الفصام السياسي العميق، التي تعاني منها إيران. فهم عبارة عن دول قومية طبيعية، وعلى هذا المنوال يمكنها حشد وتخصيص الموارد اللازمة لحل مشكلات الحياة الحقيقية، في حين أن الجمهورية الإسلامية في إيران تسعى فقط إلى تحقيق خيالاتها السياسية الزائفة بغزو العالم أجمع تحت مسميات الآيديولوجيا الغريبة الغامضة، المجهولة المعالم.