إميل أمين
كاتب مصري
TT

جولة بومبيو... تكتيكات متغيرة واستراتيجيات ثابتة

مع الزيارة الفريدة من نوعها لمسؤول أميركي كبير مثل مايك بومبيو، رجل الاستخبارات أولاً والخارجية ثانية، وبالنظر إلى طول أمد الزيارة، يبقى السؤال؛ ماذا هناك؟ وما هي ما ورائياتها، ولا سيما في منطقة تعجّ بالإشكاليات المعقدة والمتشابكة؟
قبل البحث عن تفصيلات الزيارة، ربما لا بد لنا من أن نقرّ بأن قرارات الرئيس ترمب في الفترة الأخيرة، عطفاً على تصريحاته، قد أربكت الإدارة الأميركية وأركان الدولة العميقة هناك إرباكاً كثيراً. أما حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط فليس سراً القول إن الهواجس انتابتهم من جراء «رؤية» سيد البيت الأبيض. وبات السؤال؛ هل هي بداية الانسحاب الشامل والكامل الأميركي من منطقة نفوذ أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الساعة؟
لعل القرار الأكثر إثارة للجدل كان الانسحاب من سوريا، وفي أول اجتماع للرئيس ترمب مع أركان حكومته بعد موسم الأعياد قال بالنص: «لا يوجد في سوريا سوى الرمال والموت». ولهذا بدا وكأن صراعاً أميركياً داخلياً قد جرت به المقادير، أبطأ إلى حد كبير من طرح الانسحاب من سوريا.
يدرك القائمون الحقيقيون على صناعة السياسات الأميركية أن أي مربع قوة تفرغه أميركا من نفوذها، حكماً سوف يصبّ في مصلحة المثلث الشرقي (إيران وروسيا وتركيا)، وهو آخر ما يتطلع إليه الجنرالات في البنتاغون، أو منظرو السياسة الأميركية في الخارجية، عطفاً على رجالات لانغلي من الاستخباراتيين، ذلك لأنه يعني تقلص حضور الإمبراطورية الأميركية، وإعلان زمن أفولها، وفتح الطريق أمام «استعلان» أقطاب دولية جديدة، وبالنهاية سحق ومحق «مشروع القرن الأميركي».
يحمل الوزير بومبيو إلى الحلفاء رسائل وتطمينات بأن الشراكة الأميركية معهم لن تنفصم عراها، وأنه وإن تغيرت التكتيكات في ميادين ضرب النار، إلا أن الأهداف والاستراتيجيات الرئيسة لن تتعدل أو تتبدل، فأميركا لم يعد همها الأول والأخير الآن النفط العربي، بقدر إدراكها الأهمية الجغرافية والديموغرافية للمنطقة، في سياق التحولات الجيوبوليتكية العالمية.
يذكر مسؤول رفيع في الخارجية الأميركية على سبيل المثال أن المملكة العربية السعودية تشكل دعامة للاستقرار في كثير من القضايا، وأنه لا يمكن بحث الصراع في اليمن ودعم نتائج عملية السويد بمعزل عن الرياض، فيما يشير إلى الإمارات العربية المتحدة بأنها دولة شريكة شراكة استراتيجية لواشنطن في إطار قضايا جوهرية تمس أمن المنطقة.
أما عن مصر التي اختارها بومبيو ليلقى فيها خطاباً شاملاً يتعلق بالقضايا الإقليمية، فمردّه بحسب المصدر عينه يعود إلى «موقع مصر الجغرافي والاستراتيجي، وثقلها الديموغرافي وأهميتها في المنطقة».
هل هي مقاربة أميركية براجماتية جديدة للسياسات في الشرق الأوسط، ومع العالم العربي تحديداً؟
المثير أنه في الوقت الذي يتوجّه فيه بومبيو إلى مصر والأردن ودول مجلس التعاون، نجد مستشار الأمن القومي جون بولتون يمضي في طريق أنقرة وتل أبيب، وكأن المشهد هو إعادة رسم الصورة مرة جديدة وكاملة، بعد أن بدت ملامحها تبهت وأجزاؤها تتفرق بما يُحدث خسائر مستقبلية للاستراتيجيات الأميركية الدولية.
الجزئية التي ركزت عليها التحليلات المتعددة المتصلة بزيارة بومبيو وبولتون موصولة ما بين سوريا وإيران، فقد بدا واضحاً أن صقور واشنطن كبحوا جماح ترمب، فبعد الحديث عن الانسحاب الفوري من سوريا، يجمع الكل أنه ما من جدول زمني لهذا الانسحاب في الوقت الحاضر، وأنه لو كان ترمب قد اتخذ القرار بسحب القوات من سوريا، فإن هذا سيتم بطريقة مخططة ومتناسقة مع الحلفاء والشركاء لضمان عدم خلق مساحات أو ثغرات يستغلها الإرهابيون، وهو حديث يكاد المرء فيه يستمع إلى نتاج خبرات مؤلمة لانسحاب أميركي متعجل من العراق عام 2011، وما تلا ذلك من كوارث حاقت بالمنطقة برمتها.
يدرك الأميركيون العارفون ببواطن الأمور ومسارات السياسة والنفوذ الدوليين، أن انسحاباً أميركياً مرة واحدة من سوريا هو فرصة ذهبية لإيران كي تجد لها طرقاً، وليس طريقاً واحداً، لتنفيذ مخططاتها في المنطقة، وأخطرها «درب» إلى لبنان ومنه إلى إسرائيل.
التغير التكتيكي الأميركي بدا واضحاً في التسريبات التي انطلقت في وقت مواكب للزيارة، من خلال مسؤول أميركي رفيع المستوى، يرافق بولتون لقناة «NBC». وهي تتعلق باحتمالات أن تُبقي أميركا على نحو 200 من جنودها في قاعدة التنف جنوبي سوريا، على اعتبار أنها تلعب دوراً مهماً في الحد من نفوذ إيران في المنطقة.
انزعج الجميع داخل أميركا وخارجها منذ أن تكلم ترمب الأسبوع الماضي عن إيران التي تتغير والتي بدأت بسحب رجالاتها من العراق ومن سوريا، وهو ما ينافي ويجافي الحقائق، فهل يجيء بومبيو وبولتون ليداويا الجراحات التي نجمت عن التخبط الرئاسي الأميركي الأيام الماضية؟
من الواضح أن مجابهة التمدد والغرور الإيراني تأتي في مقدمة أهداف الزيارة، ولا سيما أن إيران أرسلت الأسبوع المنصرم إشارات جنونية، كان لا بد لها من أن تثير حنق وغضب الأميركيين، مثل الصواريخ التي تجري عليها تجارب لإطلاقها إلى الفضاء الخارجي، وحديث قائد البحرية الإيرانية عن إرسال قطع من الأسطول العسكري إلى مياه الأطلسي لتعزيز الحضور الإيراني عالمياً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، للمشاركة في المناورات التي أُعلن عن عقدها قريباً بين الروس والإيرانيين في مياه بحر قزوين.
كيف لواشنطن أن يجول بخاطرها الانسحاب من منطقة مشتعلة على هذا النحو، بما يهدد مصالحها الجوهرية في العقود المقبلة؟ وهل كان للكونغرس وبقية «زوايا الحكم الثاقبة» أن تصمت؟
تبقى الإشارة إلى أمر مهم. هو أن الرئيس ترمب أراد بالفعل محاربة الإرهاب، إلا أن الأميركيين أجابوه: «المعركة ضد (داعش) لم تنته بعد»، وأي حديث عن انتصار نهائي، ومهمة قد أكملت هو «حديث الأوهام».
الخلاصة... زيارة جوهرية وأسبوع حاسم في مصير العلاقة الأميركية الشرق أوسطية.