فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

تقاسم سوريا ونهبها

أشار تقرير صحافي نشر قبل أيام إلى تقاسم ثلاث من الدول لثروات رئيسية في سوريا، حيث أكد التقرير أن «الفوسفات لروسيا والنفط لأميركا والزيتون لتركيا». وعدا صحة المحتوى، فإن التقرير يصلح ليكون إشارة إلى ما صارت إليه الحالة السورية من تقاسم للبلاد ونهب قدراتها المادية، واستغلال إمكانياتها البشرية، وقد أصبحت مشاعاً لقوى الأمر الواقع من دول وجماعات، تدخلت في القضية السورية خلال السنوات الماضية.
وإذا أدت سنوات الصراع الماضية في سوريا وحولها إلى تغييرات مستمرة في خرائط الواقع، فإن الخريطة الحالية، تجعل سوريا موزعة إلى 4 كيانات؛ أولها وأكبرها مساحة، كيان مشترك لتحالف نظام الأسد مع الإيرانيين والروس، ويمتد ما بين الساحل ووسط البلاد من حلب في الشمال إلى أقصى الجنوب في درعا والسويداء مع جزر سيطرة محدودة في الشرق والشمال الشرقي موزعة ما بين الحسكة ودير الزور، فيما تفرض الولايات المتحدة سيطرتها في الكيان الثاني على امتداد القسم الأكبر من الجزيرة السورية وصولاً إلى محيط دير الزور شرقاً وحلب في الشمال، وتدير المنطقة بواسطة حلفائها في مجلس سوريا الديمقراطية الذي يشكل أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي نواته الصلبة. ويوجد في منطقة تماس النظام مع مجلس سوريا الديمقراطية في محيط دير الزور وجزء من البادية السورية الكيان الثالث الواقع تحت سيطرة ما تبقى من تنظيم داعش، حيث لم تنجز الحرب الأخيرة ضد التنظيم مهمة القضاء عليه. ويمتد الكيان الرابع والأخير في إدلب وجوارها ذاهباً باتجاه أجزاء من أرياف حلب وحماة واللاذقية، ويعتبر هذا الكيان دائرة للنفوذ والسيطرة التركية، رغم ما يظهر فيه من قوى محلية مسلحة، تتوزع بين مؤيد وداعم للوجود التركي ومناهض له.
وكما هو واضح، فإن ما أشار إليه التقرير من تقاسم لبعض ثروات سوريا مرتبط بواقع الكيانات الحالية، والتي لا تستأثر، وتضع يدها على الثروات الرئيسية، بل على كل الموارد والإمكانيات المتاحة، وهو السلوك الذي مارسته سلطات الأمر الواقع مع بدء التسلح والعسكرة، وما أسسته من تنظيمات مسلحة، وأخرى استدعاها نظام الأسد، أو قبل بوجودها بما يعنيه من تعزيز للفوضى، ومن ترسيخ لمقولاته عن الإرهاب والتدخلات الدولية والحرب الكونية ضده.
وإذ وضعت التشكيلات المسلحة يدها على الإمكانيات والموارد في أماكن سيطرتها، وكررته في معظم الأماكن والأوقات، تحت حجج ومبررات متعددة، وجدت بعض التنظيمات في الاستيلاء على الممتلكات العامة غنائم باعتبارها كانت مملوكة للنظام، وأخرى رأت في وضع اليد على مخازن الحبوب في الشمال السوري، إجراء مطلوباً لـتأمين الخبز، وبعض آخر رأى في الاستيلاء على مناطق إنتاج النفط في الحسكة ودير الزور فرصة لتمويل التشكيلات المسلحة، وتأمين احتياجات السكان الذين خسروا قدراتهم وإمكانياتهم في حرب النظام عليهم، والبعض استثمر رسوم المعابر لتمويل تشكيلات مسلحة، ولا يحتاج إلى تأكيد قول. إن هذا النمط من إجراءات التشكيلات المسلحة مستمر في إدلب وجوارها وسط سكوت أو بموافقة تركية على نحو ما هي عليه رسوم المعابر، التي تساهم في تمويل تشكيلات موالية لتركيا.
غير أن هذا النمط من الاستيلاء على الموارد في الظروف السورية، لا يمثل الخطر الأكبر، لأنه في الغالب استيلاء مؤقت ومحدود في الزمان والمكان، وهذا ما أثبتته تجربة جماعات مسلحة في السنوات الماضية، وانتهى أغلبها بما فيها جماعات إرهابية متطرفة، وتراجع وجود بعضها ونفوذها بصورة ملموسة.
وإذ كان من إطار توضع فيه اتفاقات وإجراءات تقاسم الإمكانيات ونهبها، فإن الأقل خطراً، ما يتم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بما فيها مناطق سيطرة مجلس سوريا الديمقراطية تحت الرعاية الأميركية، ومناطق سيطرة التشكيلات المسلحة في منطقة النفوذ والسيطرة التركية، لأن كل الإجراءات هناك محكومة بالحماية الأميركية والتركية، من المسلم أنها لن تبقى، وهي إجراءات مؤقتة، سواء كانت مستمرة حتى انتقال تلك المناطق لسيطرة أطراف أخرى (وقد انتقلت الرقة منذ عام 2014 من تحت سيطرة النظام إلى «الجيش الحر» ثم إلى «النصرة»، وبعدها إلى «داعش» قبل أن تستعيدها قوات سوريا الديمقراطية) أو بانتظار التوصل إلى تسوية كاملة للقضية السورية.
إن أهم ما تم القيام به من جانب سوريا الديمقراطية في مناطق سيطرتها، هو الاستيلاء على مراكز إنتاج النفط والغاز، وفرض رسوم مرور على الأشخاص والمركبات والسلع مع الجوار، وضرائب على السكان والأعمال، ولعل الأهم فيما يتم من إجراءات هناك أمران؛ أولهما الاستيلاء على ممتلكات الغائبين من السكان ومنع حتى الأقربين من أهاليهم التصرف بها، والثاني فرض التجنيد الإلزامي على السوريين، ودفعهم للقتال ضد الآخرين، ويتماثل الإجراءان مع ما يقوم به نظام الأسد في أماكن سيطرته.
وتبلغ إجراءات تقاسم الموارد ونهبها ذروتها، فيما يقوم به نظام الأسد مع شركائه الإيرانيين والروس الذين ربطت غالبية موارد وقدرات سوريا بهما. فقد وقع النظام مع الطرفين مئات الاتفاقات المديدة، التي تناولت مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية ومنها اتفاقات تتعلق بإنتاج النفط والغاز والفوسفات والسياحة، تمت مع روسيا، التي سجلت في عام 2018 وحده دخول 80 شركة روسية لاستطلاع آفاق العمل في سوريا، وكله يضاف إلى الاتفاق الاستراتيجي بين روسيا ونظام الأسد الذي ينظم الوجود الروسي العسكري في سوريا وتدخل موسكو عام 2015 لدعم نظام الأسد وحمايته من السقوط.
ومن الطبيعي، حصول إيران على مكانة مميزة في اتفاقاتها مع نظام الأسد، وقد شملت مجالات الزراعة والنفط والصناعة والثروة الحيوانية والموانئ، إضافة إلى رفع صادراتها، التي تم إعفاؤها من الضرائب في عام 2012، ومما يعزز قيمة الاتفاقات مع النظام، إجراءات تتابعها إيران في التمدد داخل المجتمع ومؤسسات النظام الحاكم، لتعزيز نشاطها في التشيع ونشر ثقافته، وإنشاء المزيد من الحسينيات، وشراء المزيد من عقارات سكنية وتجارية على طريق إحداث تغييرات ديموغرافية وخصوصاً في دمشق ومحيطها.