سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

في الخرطوم عند منتصف الطريق!

ليست المرة الأولى التي يشهد فيها السودان ما يشهده هذه الأيام من مظاهرات غاضبة، كانت قد بدأت في 19 ديسمبر (كانون الأول) من مدينة عطبرة في شمال البلاد، ثم ما لبثت حتى امتدت إلى العاصمة الخرطوم، ومن بعدها طافت في سائر المدن.
ليست المرة الأولى؛ لأنه في أجواء ما لا يزال يُعرف بالربيع العربي، قبل ثماني سنوات، كان هذا البلد العربي الذي كان أكبر دولة عربية من حيث المساحة، إلى سنوات معدودة على أصابع اليد الواحدة مضت، قد عرف مظاهرات متفرقة، ولكنها كانت وقتها أقل حدة مما نتابعه في اللحظة الراهنة، وكانت أقل سخطاً وغضباً، وكانت أضيق نطاقاً، وكانت في عمومها جزءاً من ظاهرة ثورية راحت في تلك الأيام تنتقل من بلد عربي إلى بلد آخر، وكأنها عدوى تتطاير ميكروباتها الناقلة للمرض مع الهواء!
قبل ثماني سنوات، كانت المطالب معنوية، أكثر منها مادية، وكان المتظاهرون في العاصمة وفي غيرها من المدن السودانية، يطلبون الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، أو كانوا يطلبون أشياء من هذا القبيل، فهكذا كانت شعارات ما سمي «الربيع» في البلاد التي دقت أبوابها عواصفه، ووصلت إليها رياحه، وزحفت إليها جيوشه، ولم يكن خفض أسعار الخبز، مثلاً، من بين المطالب، ولا كان بالطبع على رأسها، ولا كانت الشكوى من الغلاء، ومن شُح سلع أخرى غير الخبز، لغة مشتركة بين المتظاهرين، على نحو ما يحدث في الوقت الحالي في أنحاء متفرقة من السودان!
ومما يمكن حسابه للرئيس عمر البشير، في هذه اللحظة، أنه طلب من الشرطة عدم استخدام القوة المفرطة في التعامل مع المتظاهرين، وأنه قال إن الغرض من وجود البوليس في الشارع، هو تأمين الوطن والمواطن، وليس قتل المواطنين، وإن الأمن سلعة غالية، وإن الدولة لن تفرط في توفيرها لمواطنيها. هذا محسوب للرجل؛ لأن هؤلاء الذين طلب هو عدم استخدام القوة المفرطة معهم قد خرجوا يطلبون رحيله، ويحاولون الوصول إلى قصر الرئاسة لتسليم مذكرة بهذا المعنى، لولا أن الشرطة قد حالت بينهم وبين الوصول أكثر من مرة، ولا تزال!
وفي إحدى مرات التظاهر أيام الربيع العربي، كانت عدة مظاهرات قد طالبت بإسقاط البشير، الذي راح بدوره يتوعد المشاركين فيها وينصحهم بالانصراف إلى أمور حياتهم؛ لأن قدرة كل متظاهر فيهم على لحس كوع يده، أسهل عليه كثيراً من إسقاط الحكومة! وكان رد المتظاهرين أيامها أنهم دعوا إلى جمعة للتظاهر شعارها: «جمعة لحس الأكواع»! وكانت جمعة نادرة بين جُمع كثيرة، كان سمي ربيع العرب في 2011 قد عرفها، وابتدعها، واعتاد على سماع الغريب أسبوعياً في تسمية كل جمعة!
ويستطيع الرئيس البشير أن يحتوي المظاهرات التي لا تريد أن تتوقف، لو أنه أحيا تعهده القديم بألا يترشح لانتخابات الرئاسة التي ستجري في العام المقبل. فهو كان قد قال صراحة قبل عامين من الآن إنه لن يخوضها، وإنه سيكتفي بولايته الحالية التي تنتهي في 2020، وإنه لا يفكر في البقاء في الحكم بعد هذا التاريخ. غير أن مؤشرات واضحة في الفترة الماضية تقول إنه تراجع عن ذلك. ولعله يلاحظ أن كل الوعود التي بذلتها حكومته للمتظاهرين منذ أطلقوا احتجاجاتهم منتصف الشهر الماضي، لم تفلح في إقناعهم بالعدول عن الخروج في صباح كل يوم تقريباً، ولا نجحت في امتصاص غضب الشارع الساخط!
فالشارع الغاضب لا يطلب الخبز مع باقي السلع بأسعار في متناوله، وفقط، ولا يشكو ندرة النقود في يده، وحسب، ولكنه يطلب التغيير السياسي بإحدى يديه، وباليد الثانية يطلب السلع التي شحت في الأسواق.
يطلب التغيير لأنه يعرف أن نظاماً يحكم منذ ثلاثة عقود، لا بد أن يؤمن بالتغيير، وأن يبادر به، وأن ينظمه إذا شاء، بدلاً من أن يجده مفروضاً عليه في لحظة. فلقد ثبت من التجارب الماثلة في المنطقة أمام العين، أن التغيير المفروض على أصحابه من هذا النوع له أثمان باهظة، لا يستطيع السودان الوفاء بها في مثل حالته، ولا يتمنى عواقبها كل محب للسودان ولأهله الأشقاء!
والغالب أيضاً أن الذين يبادرون بالدعوة كل يوم إلى مزيد من التظاهر، سوف يتراجعون عما يدعون إليه لو كانت هناك وعود جريئة؛ فلو كان هناك وعد بانتخابات جديدة مثلاً، فإنهم سوف يرون في الانتخابات القادمة نافذة قريبة من النور، يمكن أن تقود إلى وضع أفضل للبلاد. وهكذا فالوعد بالانصراف الذي كان هو قد قطعه على نفسه، من تلقاء ذاته، صار وعدين: وعد بالانصراف في موعد اختاره هو مُسبقاً ولم يفرضه عليه أحد، ووعد آخر بتنظيم عملية الانتقال خلال فسحة من الوقت، ممتدة بطبيعتها من هنا إلى موعد الانتخابات في العام المقبل!
وحقيقة الأمر أن وعداً ثالثاً غير مكتوب، كان الرئيس السوداني قد وعد به يوم تولى الحكم قبل عقود ثلاثة من الزمان، هذا الوعد هو أن يتولى نقل المواطن في بلده من حالة معيشية قائمة يومها، إلى حالة أخرى أفضل منها لاحقاً. فإذا كان الثابت في اللحظة الراهنة، أن رغيف الخبز الذي كان يباع قبل ثلاثين عاماً كان أفضل، وأرخص، وأوفر، وأن سعر الجنيه كان أقوى، وأن عود العُملة الوطنية كان أصلب، وأن السلعة النادرة اليوم أو الشحيحة، كانت من قبل متوافرة وموجودة، فالمعنى أن هذا الوعد الثالث غير المكتوب، لم يجد حكومة من حكومات الرئيس المتعاقبة تستطيع أن تفي به، وأن التغيير الذي ينشده المتظاهرون الغاضبون لا بد أن يصادف في المستقبل، حكومة أخرى قادرة على الوفاء بهذا الوعد غير المكتوب، الذي يقوم بطبيعته بين كل حكومة وكل شعب، وليس فقط بين حكومة وشعب السودان، والذي هو في الوقت ذاته أساس راسخ، تقوم عليه فلسفة التداول بين الأحزاب وأصحاب الرؤى المتباينة في الحكم، بما يقطع الطريق على التغيير بالعنف!
في يد الرئيس في الخرطوم أن يفتح نافذة من الأمل في بلاده، وأن يلتقي مع هذه الجماهير الراغبة في حياه أفضل، عند نقطة في منتصف الطريق، وأن يعيد كتابة عبارة كان الفريق سوار الذهب قد كتبها بيمينه من قبل، فقال ما معناه، إن الكرسي ليس هدفاً في حد ذاته، ولا يجوز أن يكون!