خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الكبار يذكرون حسنات الكبار

ويهضم فيها الحكيم الإمام
ويكرم فيها الجهول الغبي

هذا ما قاله الشاعر المصري حافظ إبراهيم عن مصر في عهده. ينطبق القول على كثير من الدول الشرق أوسطية، وعلى رأسها العراق الذي اعتاد رجالاته وفنانوه ومفكروه ألا يحظوا بالاعتراف إلا خارج بلدهم وبين غير إخوانهم.
كان من هؤلاء الدكتور محمد فاضل الجمالي؛ رحمه الله. كنت أقرأ الكتاب الذي أصدرته «دار الحكمة» في لندن في تأبينه، ولفتت نظري فيه كلمة الدكتور عز الدين العراقي؛ السياسي والوزير المغربي، عندما قامت الحكومة الفرنسية بنفي الملك محمد الخامس، رحمه الله، من بلاده وإصرارها على تثبيت حكمها الاستعماري في المغرب. بذل سائر الحكومات العربية والإسلامية، وبذل ساستها وقادتها، جهودهم من أجل الرد على الحكومة الفرنسية وإرغامها على الإذعان لإرادة الشعب المغربي وطموحه للاستقلال التام في ظل محمد الخامس. برز من بين هؤلاء الساسة محمد فاضل الجمالي الذي هز محافل الأمم المتحدة بخطبه البليغة في التنديد بفرنسا وسياستها نحو المغرب العربي.
أخيراً حدث ما لا بد من أن يحدث، واضطر الفرنسيون إلى التراجع، وعاد محمد الخامس ظافراً منتصراً إلى بلاده في تلك الاحتفالات التي لم تشهد المملكة المغربية مثيلاً لها، وسارع الجمالي إلى تهنئة الملك بعودته والشعب المغربي بتحرره.
لم تمض غير أشهر قليلة حتى حدث انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958 في العراق. وكان من أولى خطوات العهد الجديد اعتقال محمد فاضل الجمالي، وإحالته إلى «محكمة الشعب» والحكم عليه بالإعدام. في هذه الأثناء كان عبد الكريم قاسم قد دعا الملك محمد الخامس لزيارة العراق. ولكن العاهل المغربي تذكر الجمالي وأفضاله. فقال لهم: لن أزور العراق حتى يلغى هذا الحكم ويطلق سراح الجمالي. ولم يستطع العهد الجديد غير أن يذعن لطلب الملك، فصدر عفو عن الجمالي وأعيد إليه جواز سفره فالتحق بالجمهورية التونسية التي كانت سعت هي كذلك لإطلاق سراحه. دعته فوراً للتدريس في الجامعة. مكث هناك حتى عام 1997 حين وافاه القدر المحتوم في 24 مايو (أيار) ودفن خارج بلاده.
يمضي الدكتور عز الدين العراقي فيقول إنه ما إن سمع بموت محمد فاضل الجمالي حتى خف لزيارة بيته المتواضع وتقديم التعازي للأسرة. وهناك في غرفة الاستقبال، وجد أمامه الصورة التي واظب الفقيد على تزيين بيته بها. وكانت صورة العاهل المغربي الملك محمد الخامس، رحمه الله.
كبار الرجال يفكرون في حسنات الكبار، وصغار النفوس لا يرون غير سيئاتهم ونقائصهم!