TT

للناس في ما يعملون مقالب

تتداخل المقالب والمذاهب وتتقاطع المشارب. في كل مسارات الحياة تتصادم المصالح؛ كبيرها وصغيرها، وكثير من المصائر تصنعها ألاعيب صغيرة. قصة عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري لا تغادر الذاكرة العربية، فقد تركت أخطر أثر في مسار التاريخ العربي. لعبة أداتها خاتم صغير، وليست كرة قدم أو مضرب. مقلب صغير كأنه لعبة أطفال. اليوم تحوز كلمة المؤامرة مساحات واسعة في سطور الكتب والصحف. أما المقالب الدامية، مثل مذبحتي البرامكة والمماليك، فهما من محطات المقالب التآمرية الكبرى. السياسة إذا خلَتْ من المقالب والتخطيط والتدبير تكون مجرد أمنيات وخيالات شعرية أو ترهات رغبوية ساذجة. المصالح هي ما يصنع تدافع الناس كي لا تفسد الأرض. المؤامرة تقنية سياسية تسود في المجتمعات التي تفتقد قواعد اللعبة السياسية كما يقولون. ولكن حتى المجتمعات التي تسود بها الديمقراطية لا تخلو من خبطات المقالب النوعية. ماو تسي تونغ اخترع الثورة الثقافية للتخلُّص من رفاقه الذين تداولوا فيما بينهم ضرورة مراجعة السياسات العامة الداخلية والخارجية، وكان عنوان المقلب «التحريف والانحراف عن الثورة». الرفاق منهم مَن وجد نفسه في مصنع، وآخر من ديوان الحزب إلى مزرعة في الريف، أما ستالين فهو فيلسوف الرأس واليد. مقالبه من العيار فوق الثقيل، القتل كان وجبات يومية بل لعبة كل ساعة، وكثيراً ما تكون دون عنوان.
قصة السلطان والحلاق كانت في الأندلس، حيث اعتاد السلطان أن يستقبل حلاقه الخاص في الصباح الباكر كل يوم ليحلق له ذقنه، في إحدى المرات وعندما كان الاثنان على انفراد والموسى على حلق السلطان، قال الحلاق غاضباً: «الآن سأذبحك».
ارتعب السلطان وردَّ مرتعشاً: «لماذا يا هذا، أجُننتَ؟!»، قال الحلاق: «أنتم تتكبرون علينا وتحتقروننا، لقد تقدّم ابني لخطبة إحدى بناتكم فطُرِد باحتقار، الآن سأذبحك». قال السلطان: «غداً سأزوّج ابنتي لابنك. حُسِم الأمر، ونحن الآن أصهار». دخلت مجموعة من حرس السلطان، قال أحدهم: «مولاي لقد سقطَتْ مئذنة الجامع الكبير». قال السلطان: «إذن خُذوا الحلاق واقتلوه فوراً». بُهت الحراس ونفذوا أمر السلطان.
من المقالب الكوميدية التي سُجّلت في التاريخ العربي تلك التي قام فيها مهرِّج للخليفة بسحب كرسي الوزير وهو يهمّ بالجلوس في جلسة سمر حاشدة بحضور الخليفة وحاشيته، سقط الوزير على الأرض، وتعالت ضحكات الحاضرين. أسرّها الوزير في نفسه، تآمر مع جارية محببة للخليفة وأعطاها مبلغاً من المال، وطلب منها أن تعدّ كأسا بها سُمّ. في أول جلسة سمر بحضور الخليفة، أعطت الجارية الكأس إلى المهرج ليقدمها للخليفة، وعندما همَّ المهرج بذلك، صرخ الوزير: «لا... لا يا مولاي، لا تشرب من هذه الكأس، إني أرى شرّاً في عيني المهرج»، وطلب الوزير قِطّة لتسقى من الكأس، ماتت القطة مباشرة. حُكِم على المهرج بالموت فوراً. جُهّزت المشنقة، أُوقِف المهرج تحتها على كرسي، تقدم الوزير نحو المهرج المرتعد قائلاً: «هكذا تسحب الرجالُ الكراسيّ من تحت المهرجين». هل المقلب ركن من أركان العمل السياسي أو حتى المساحات الأخرى من الحياة. التدبير، والمؤامرة، والخديعة، وتدافع المصالح لها قشرة المقلب. الدهاء ارتبط عبر التاريخ القديم والحديث بشخصيات لا تغيب عن الأفواه والحروف. أدولف هتلر ضلَّل رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين الذي وثق به وسار معه في سياسة التهدئة بـ«اتفاق ميونيخ»، ثم غدر به وقضم بولندا. مقلب الفوهرر انقلب عليه الداهية تشرشل، وأنهاه منتحراً في برلين المدمرة. القصة المتداولة عن لقاء الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بالسفيرة الأميركية غلاسبي، وتزيينها له غزو الكويت وضمها لبلاده تبقى من أكبر المقالب السياسية، إن صدقَتْ الرواية.
الجاسوسية من أخطر المهمات التي يقوم بها إنسان، كيمياء معقَّدة من المؤامرات المركبة. مقالب متشابكة، الجاسوس الإسرائيلي كوهين الذي عاش في سوريا وغاص في مفاصل حياتها الاجتماعية والسياسية، كان مدرسة خاصة في إتقان المقالب التي نسجت غشاوة كثيفة على عيون الجميع، من رجال الأمن والسياسة، ولولا الصدفة لوصل إلى قيادة الدولة السورية.
للمقالب فنونها، تقدّم السياسي والأديب الأستاذ لطفي السيد للانتخابات البرلمانية المصرية. شنّ غريمه المناظر له في الدائرة الانتخابية حملةً مضادةً شديدة في مواجهته. قال إن «لطفي السيد يؤمن بالديمقراطية ويدعو لها، وهل تعلمون ما هي الديمقراطية يا سادة؟ إنها الدعوة إلى تعدُّد الأزواج للمرأة الواحدة». في زخم الحملة الانتخابية، جاء الأستاذ لطفي السيد ليخطب في جماهير دائرته الانتخابية، عاجله أحد الحاضرين بسؤال: «هل تؤمن فعلاً يا أستاذ بالديمقراطية؟»، ردَّ الأستاذ المرشح بقوة وحماس: «نعم، أنا أومن بالديمقراطية بقوة، وهي الطريق الوحيد لحل مشكلاتنا... إلخ». هنا تدافع الجمهور نحوه بين شاتم له وملقٍ للكراسي على جسده، ورضي الأستاذ من الحملة بالهروب ناجياً بجسده ومنسحباً من الترشّح.
اليوم صار للمقالب تقنينها وعلومها التي تتجلى في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في العديد من البلدان. الحملات الانتخابية التي تعزف على أوتار الغرائز وحاجات الناخبين وتقديم البرامج الوردية التي تعد بالحلول الجاهزة لمشكلات الناس دفعة واحدة تطغى فيها، وتسقط الانحرافات والفضائح على المنافسين؛ الفضائح الجنسية، والمخالفات المالية، بل والأمراض التي تشكّك في قدرات المنافسين الصحية على تولي المسؤوليات الجسام.
الرئيس الفرنسي السابق هولاند خرج ليلاً من قصر الإليزيه متنكراً في شخصية مواطن عادي يقود دراجته النارية للقاء عشيقته. اشتعلَتْ وسائل الإعلام الفرنسية، وحرقت الرئيس في هجوم واسع لم يتوقف. هل استُدرِج الرئيس إلى مقلب أُعِدّ وبثمن غالٍ لذلك الحدث؟! هناك دخان، فبالتأكيد هناك نار، غادر الرئيس محفل السياسة ولم يتقدم للانتخابات الرئاسية. في المناظرات التي أصبحت من إحدى القواعد الإعلامية في الحملات الانتخابية الرئاسية والنيابية، أصبح هناك جيش يتولى جمع سقطات الخصوم ونقاط ضعفهم، بما يضمن تهافت حضورهم الإعلامي في موضوعات معينة، من حيث القدرات الخطابية والمعلومات الدقيقة في قضايا بعينها، تُعدُّ لهم حُفَر المقالب التي يسقطون فيها على الهواء مباشرة. أكثر من رئيس أميركي فَقَد فرصة الصعود إلى كرسي الرئاسة بسبب هوّة المقالب المعدَّة من جيش متخصص ومحترف.
كانت المقالب، خصوصاً السياسية، نوعاً من الدهاء الشخصي... الآن صارت لها مدارس ومصانع وخبراء. ميكيافيلي كان الأستاذ المؤسِّس في كتابه «الأمير» للعبة السياسية، اليوم تعجّ الملاعب بنجومها.