غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»
TT

إقليم منكوب وزحمة حروب وأطباء

لا نعرف كيف استقبل أبو بكر البغدادي السنة الجديدة في مخبئه. أغلب الظن أنه يحاول الاستعداد للثأر. «دولته» العتيدة تبخرت تحت ضربات أطراف كثيرة، في مقدمها التحالف الذي قادته الولايات المتحدة. تأكد بما لا يقبل الشك أن الإرهاب يُشطب من المعادلة حين يقيم تحت عنوان معروف. لهذا بدا رهانه واضحاً في الفترة الأخيرة على الذئاب المنفردة. تبخرت «الدولة» وقتل الكثير من إرهابيّيها. قسم آخر بدأ رحلة البحث عن ساحة أخرى طازجة. القسم الثالث بات محاصراً وينتظر مصيره المعروف. ذهبت أيام المواكب التي تجتاز تحت راياتها خط الحدود السورية - العراقية، التي ألغاها «داعش». وذهبت أيام الاستيلاء على مدن وآبار وحقول. وذهبت أيام حز الأعناق لتنشغل بها الشاشات.
هذا لا يعني أبداً أن «داعش» لم يعد تنظيماً خطراً. لكن الأكيد هو أن «داعش» لم يعد الموضوع الأول في الشرق الأوسط المريض، ولم يعد الخطر الأول. كشفت المغامرة الدموية للتنظيم أن المنطقة تختزن كماً هائلاً من النزاعات المشتعلة والكامنة، وأن الشرق الأوسط يعبر مرحلة انهيارات وتحولات، وأن عوامل التفجير لا تقتصر على التحرشات بين الخرائط، بل تتعداها إلى داخل الخرائط التي تعيش غالباً في ظل غياب مفزع للمؤسسات وصمامات الأمان.
منطقة تجتاز سلسلة صعبة من المنعطفات الحادة، ولا تجد فكرة ترشد، ولا عصا موثوقة تتوكأ عليها. مرحلة ضباب ودم وخوف وغموض وأزمات حدود ووجود وسكاكين شحذها التاريخ، وأخرى تستعد. حروب أدوار، وحروب حقوق، وحروب استئثار، وحروب هويات. بقرت مغامرة «داعش» أحشاء هذا العجوز الذي نسميه الشرق الأوسط، فتدفقت الأهوال. أزمة علاقة بالعصر وقاموسه في ظل تمسك لافت بقواميس لا تصلح لزمن الثورة الصناعية الرابعة والأجيال الجديدة من ثورة الاتصالات. وأزمة تعايش بين خرائط يعتبرها أصحابها ثوباً ضيقاً مفروضاً. وأزمة تعايش داخل الخرائط نفسها بسبب ميل مزمن إلى اللون الواحد واعتبار كل اختلاف تهديداً يستحق الشطب.
لا مبالغة في اعتبار إقليم الشرق الأوسط إقليماً منكوباً. منكوب بالفقر والبطالة والفساد وغياب الدولة الطبيعية والثقافة الرحبة للعيش. منكوب بشهيات قديمة لدول تزعم أن التاريخ عاقبها وقلّصها وحاصرها داخل ما تسمى حدودها الدولية. ومنكوب بتعليم ينتمي إلى زمن انقضى، وجامعات تخرج متمرسين في المرارات ومشاعر الإحباط. منكوب بالظلم الذي لا يقتصر على الفلسطينيين والأكراد. وبالذين يبحثون عن أمنهم خارج حدودهم، وبتهديد سيادة جيرانهم وأمنهم. منكوب أيضاً بعلاقة متوترة مع العالم، فإما الصدام المكلف، وإما الإحباط الباهظ. ومنكوب بمتعة الحروب الصغيرة والأوهام الكبيرة وافتقار فكرة التقدم إلى الشعبية والجاذبية.
ليس بسيطاً على الإطلاق ما شهدناه ولا نزال. دارت على أرض سوريا سلسلة من الحروب، وبعضها لا يعد بنهاية قريبة. لقد شاهدنا حرباً بين سوريين معارضين وسوريين موالين. ثم شاهدنا سوريا تتحول جرحاً مفتوحاً تدفق إليه المتطرفون والإرهابيون، وهكذا اتخذ النزاع الدائر هناك منحى آخر. شاهدنا كل أنواع التدخلات في دولة انهار استقرارها واستبيحت حدودها.
شاهدنا إيران تتقدم للدفاع عما تعتبره الحلقة السورية في الهلال الإيراني. حلقة حيوية تضمن لإيران المرابطة على جبهة أخرى من جبهات النزاع العربي - الإسرائيلي، وتشكل المعبر الذي لا بدَّ منه لإيصال الصواريخ إلى «حزب الله» اللبناني. أرسلت إيران «مستشاريها» وميليشياتها. اجتذب التدخل الإيراني مزيداً من التدخلات المضادة حين اعتبرت سوريا المسرح الأول لمجابهة مذهبية أو إقليمية.
لم يلتفت كثيرون إلى خصوصية التركيبة السورية والفروقات بين الجيش السوري ونظيريه في مصر وتونس ووقعوا في خطأ التقدير أنها مجرد حلقة جديدة من «الربيع العربي» ستتمخض عن نتائج مشابهة.
وفي خضم الصراع، رفض باراك أوباما الانخراط في النزاع السوري ليلة الحديث عن انتهاك «الخط الأحمر» في موضوع الكيماوي. أعطى الانطباع أن أميركا لا ترى في سوريا ما يستحق إنفاق دم الأميركيين وبلايينهم. في المقابل كانت لفلاديمير بوتين حسابات أخرى. رأى في الجرح السوري فرصة للتقدم خطوة جديدة في الانقلاب الذي يقوده ضد ما يسميه تفرد الولايات المتحدة في شؤون العالم. لبوتين حساب صعب مع «الربيع العربي» كان لا بدَّ من تصفيته. تدخل الجيش الروسي، وأنقذ النظام السوري، وبدأ فصل جديد من النزاعات على الأرض السورية. لم تقتصر حرب بوتين على مواجهة «داعش» وإخوته، بل شملت أيضاً المنظمات المعارضة، مع فصل خاص باستهداف المقاتلين الوافدين من الجمهوريات التي مزقت العباءة السوفياتية وفرّت منها.
تركيا التي فتحت الحدود أمام المتشددين الراغبين في محاربة نظام الرئيس بشار الأسد استدرجها التفكك السوري لاحقاً، أو كان بين الأعذار التي لجأت إليها. أرسلت جيشها إلى داخل الأراضي السورية لإجهاض حلم الأكراد بما يشبه الإقليم، ولتكون حاضرة إلى أي طاولة ستقرر لاحقاً مستقبل سوريا.
أميركا ترمب رابطت في شرق الفرات مع حلفاء غربيين. واصلت مواجهة «داعش» وتعزيز قدرات الأكراد، وتطلعت إلى إقامة قدر من التوازن مع الوجود العسكري الروسي صاحب القرار الأول في دمشق. إسرائيل بدورها شنت حرباً متواصلة على ما سمته محاولة إيران إنشاء بنية عسكرية دائمة في سوريا. وفي موازاة ذلك مزق ترمب الاتفاق النووي بين إيران والدول الست، وأعاد طهران إلى زمن العقوبات. الأمر الذي زاد الالتهاب في اليمن، وأنعش التوتر في العراق.
لا الطبيب الروسي يملك حلاً كاملاً بمفرده، ولا الطبيب الأميركي يملكه. تدخلات الطبيب الإيراني تفاقم حالة المريض، والأمر نفسه بالنسبة إلى الطبيب التركي. فوق هذا المشهد المكتظ بالحروب والأطباء يجول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لتبديد الانطباع أن قرار ترمب يعني ترك الإقليم المنكوب لمصيره. مهمة استثنائية لبومبيو تشمل توزيع الأفكار والتعهدات، فضلاً عن الضمانات والضمادات.