د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

تركيا وشمال سوريا... من «الغزو» إلى «الإلحاق»

تتجه الأنظار ناحية شمال شرقي سوريا؛ حيث حديث الحرب هو الغالب من كل الأطراف تقريباً، والمبرر المعلن هو الحرب على الإرهاب وجماعاته. ووراء المعلن كثير من دوافع الهيمنة والسيطرة، بحق قليلاً، ومن دون حق كثيراً جداً. ويلاحظ أن ما هو إرهابي عند طرف ليس إرهابياً عند طرف آخر. وآخر من يُستمع له هو الشعب السوري المغلوب على أمره دائماً، أيا كانت طائفته أو دينه أو عرقه. ولا يهم هنا أن تكون عربياً أو كردياً، مسلماً أو مسيحياً أو درزياً، تعيش في دمشق أو في ريف حلب أو الجنوب السوري.
تبدل معنى الإرهاب ومن هم المعنيون به يزيد من صعوبة الموقف، ويؤدي إلى تضارب المواقف، ومن ثم غياب التوافق الإقليمي، والنتيجة شبه محسومة في عدم استقرار الوضع السوري لسنوات قادمة؛ بل زيادة نسبة خروج ثلث البلاد من أفق السيادة السورية لسنوات أطول.
والجدل الدائر حول الدور التركي في شمال شرقي سوريا يوضح المعنى؛ بل أي لبس أو غموض. فأنقرة ترتفع طموحاتها في السيطرة على تلك المنطقة بضفتيها، شرق الفرات؛ حيث مدن كبرى كمنبج وآبار النفط ومصادر المياه والزراعة الغنية، بعد أن تمكنت من غربها مطلع العام الماضي؛ حين قامت بعملية احتلال عفرين باتفاق مع روسيا.
وكم أصبح الانسحاب الأميركي من سوريا - بعد هزيمة 90 في المائة من تنظيم «داعش»، ولأن سوريا ليست أكثر من بلد رمال ودم حسب قوله، الذي أعلنه الرئيس ترمب مشفوعاً بتعبير أن «سوريا كلها لك» للرئيس إردوغان، وفقاً لما جاء في المحادثة الهاتفية بينهما - محفزاً كبيراً لأنقرة للقيام بحملة عسكرية كبيرة، يتم الحشد لها منذ فترة طويلة تحت مبرر القضاء على قوات «حماية الشعب الكردية»، باعتبارها امتداداً إرهابياً لحزب العمال الكردستاني التركي، يجب القضاء عليه.
جزء من الالتباس والتضارب ناتج عن أن هذه القوات الكردية السورية تصنف حليفة للولايات المتحدة، التي لم تراعِ هذا التحالف عملياً، رغم القول بغير ذلك، ولعبت دوراً مشهوداً في محاربة تنظيم «داعش»، وكان دورها رئيسياً في القضاء على «الدولة الإسلامية الداعشية» المزعومة، وهي عنصر فاعل بالنسبة لطموحات أكراد سوريا في إعادة بناء الدولة السورية، وفقاً لمفهوم الفيدرالية أو اللامركزية الموسعة، التي توفر للأكراد نوعاً من الحكم الذاتي، في إطار الدولة السورية ونظامها السياسي الجديد، بافتراض أن هناك تسوية ستقر هذا الأمر من خلال المفاوضات برعاية أممية.
الطموح الكردي على هذا النحو يقابله طموح تركي إردوغاني، قوامه القضاء التام على أي صيغة ذات طابع لا مركزي لأكراد سوريا، وهو طموح لا يخلو من مخاطر عريضة، تتسع شيئاً فشيئاً. ولدينا هنا أمران يسيران معاً؛ أولهما سيناريو «الإلحاق والتبعية» بمعنى أن يصبح أكراد سوريا بمثابة تابعين لتوجهات أنقرة، ومراعين لمطالبها وأولوياتها، وعنصراً يتم توظيفه لخدمة الأمن القومي التركي. ولا يهم هنا أن هؤلاء الأكراد هم جزء من دولة مجاورة يفترض مراعاة سيادتها على أراضيها، وأن المنطقي أن يتحاور سكانها مع نظام تلك الدولة لحل المشكلات المعلقة، وليس أن يبدلوا ولاءهم لدولة أخرى، وينصاعوا لمصالحها. وفي عفرين وما حولها والمناطق غرب الفرات الواقعة تحت السيطرة التركية، بمساعدة «الجبهة الوطنية للتحرير» المكونة من تجمعات عميلة لأنقرة، تتم عملية الإلحاق من خلال منهج التتريك لمظاهر الحياة والإدارة والتعليم والصحة الاتصالات، ويتم الإشراف عليها من محافظي المدن التركية على الجانب الآخر من الحدود التركية السورية، وكأن تلك المناطق السورية مجرد امتداد جغرافي ولكنه في العمق السوري.
ادعاء أنقرة أنها لا تحارب الأكراد السوريين، وأن هذا القول «سخيف»، حسب قول مسؤول رئاسي تركي، هو جزء من محاولة إقناع واشنطن بأنها تمثل البديل الأفضل لشمال شرقي سوريا، بعد الانسحاب الأميركي منها، وفي ذلك تَعِد الأكراد السوريين بمصير مشابه لأكراد العراق الذين بنوا علاقات تعاون استراتيجية معها، وفتحوا لشركاتها مجالات استثمار هائلة في كافة القطاعات، بعد أن تخلوا عن دعم حزب العمال الكردستاني.
المسار الثاني وهو التدخل العسكري، وهنا تسعى أنقرة للاستفادة من مصالحها النامية مع موسكو، والتي سمحت لها من قبل بالدخول إلى عفرين من دون أدنى اعتراض، رغم الإعلان بين الحين والآخر عن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وسيادة دمشق عليها. كما تريد أن تستفيد أيضاً من عضويتها في «الـناتو» وشراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، رغم الخلافات الأخيرة بينهما، وذلك للحصول على أكبر كم من الفوائد، ممثلة في الاستحواذ على أي معدات قد تتركها الولايات المتحدة في الأراضي السورية، وأن تتسلم كافة القواعد الأميركية شرق الفرات، وعددها 22 قاعدة مجهزة بالاتصالات الحديثة، وأن تُسحب كافة المعدات والأسلحة الأميركية من «قوات حماية الشعب» الكردية. ويأتي التهديد بشن حملة عسكرية لاجتياح المثلث السوري، سواء اتفق مع الجانب الأميركي على آليات الانسحاب منه والإحلال التركي مكان الأميركيين، أو لم يتم الاتفاق عليه، فهو جزء من عملية إقناع للمفاوضين الأميركيين الذين أشار إليهم وزير الخارجية بومبيو في تصريحاته بالقاهرة، بأنهم يتفاوضون في عمق القضايا مع الجانب التركي حول سوريا، بالخضوع للشروط التركية.
ونظراً للتضارب في المواقف الأميركية، الذي يبدو مقصوداً، بشأن عملية الانسحاب وأهدافها الحقيقية، وعلاقتها بالتمركز في العراق، ومدى مساهمة تلك القوات لاحقاً في محاربة بقايا تنظيم «داعش»، أو في الضغط على إيران في كل من سوريا والعراق، فمن المرجح أن تقدم أميركا بعض التنازلات للجيش التركي، مقابل إعلانات خادعة بوعود إنشاء علاقة ودية مع أكراد سوريا، ما داموا لا يقاومون الوجود العسكري التركي في أراضيهم، وهو ما سيمثل مأزقاً بالنسبة لروسيا التي ستكون بمثابة شاهد على تقسيم سوريا، رغم الادعاء بعكس ذلك. وسيشكل هذا الأمر حال حدوثه ضربة أخرى بعد الذي حدث في إدلب، والتراجع التركي عن الالتزام بإنهاء وجود المنظمات الإرهابية المسلحة، وفقاً للاتفاق بين الرئيسين إردوغان وبوتين، في سبتمبر (أيلول) الماضي؛ بل والتغاضي عن سيطرة «هيئة تحرير الشام» أو «النصرة» فرع «القاعدة»، والمصنفة إرهابية، على مساحات واسعة من إدلب وشمال ريف حلب، بعد الاتفاق مع جماعات محسوبة على الجبهة الوطنية العميلة لتركيا. وثمة تفسير منطقي للغاية يرجح حدوث الأمر بتنسيق مع أنقرة ذاتها، كجزء من خلط الأوراق، والتمهيد لتوسع عسكري تحت مبرر مواجهة الجماعات المتطرفة.