حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«البليارد» اللبناني

في ساعات الصباح قامت وحدة عسكرية من الحرس الجمهوري برفع أعلام الدول العربية المشاركة في القمة الاقتصادية العربية، من المطار الدولي إلى البيال في وسط بيروت حيث ستنعقد القمة، وفي ساعات المساء قام خليط من المجموعات قيل إنهم من «ألوية الصدر» التابعة لـ«حركة أمل»، التي يرأسها الرئيس نبيه بري، بإنزال علم الثورة الليبية ورفع العلم الحزبي لـ«الحركة» مكانه، وانتشرت في بيروت مع العلم الحزبي الخاص صور الرئيس نبيه بري والرايات السود... وافتقد المواطن السلطة الرسمية والأمن.
وبين الحدثين كان الشيخ حسن المصري قد هدد بأن الوفد الليبي لن يدخل لبنان، وأن «ألوية الصدر» قادرة على احتلال المطار والمرافئ والحدود ومنع دخول الوفد الليبي، ورفض المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بهيئتيه الدينية والزمنية (نواب ووزراء الطائفة الشيعية) أي مشاركة ليبية، وفي مطار بيروت الدولي تم حجب التأشيرات عن وفد ليبي ضم رجال أعمال واقتصاد وأُعيد الوفد من حيث أتى (...) بالمقابل اعتصمت السلطات بالصمت. الوزارات المعنية الداخلية والدفاع والخارجية اكتفت بمراقبة الحدث، ورئاسة الحكومة تجاهلت، ورئاسة الجمهورية لم تعلق!
قبل 40 سنة تم تغييب الإمام موسى الصدر لدى زيارة رسمية قام بها إلى ليبيا، ولغز الاختفاء لم يحل بعد والتهمة تقع على الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، ولم تصل المطالبات بمعرفة مصير الشخصية اللبنانية البارزة إلى أي نتيجة، وانعكس ذلك سلباً على العلاقات بين البلدين، لكن هذا الحدث الجلل لم يمنع ليبيا القذافي من المشاركة في القمة العربية التي استضافها لبنان عام 2002 بوفد رفيع. يومها لم يعترض الرئيس بري الذي قال بالأمس «لا تجربوننا»، ولم نشهد تحركات «الألوية»، ولم يجتمع استثنائياً المجلس الشيعي. هذا مع العلم أن السلطات الليبية اليوم هي التي قلبت حكم القذافي وأنهت المرحلة السابقة.
عود على بدء. في سياق الصراع على تأليف الحكومة، ومع أجندة شروط «حزب الله» للإفراج عن التأليف، وبعدما مضى على تكليف الرئيس سعد الحريري 231 يوما دون طائل، طُرح موضوع القمة العربية التنموية التي كان يمكن أن تشكل فرصة للبنان وبوابة للاستثمار في بعض القطاعات، فوجد الفريق الممانع الفرصة مواتية لفرض دعوة رأس النظام السوري والتطبيع مع سوريا، مع أن الأمر بيد الجامعة العربية وليس بيد بيروت، ورغم ذلك قال فريق الرئيس بري لا قمة من دون سوريا، وتتالت بهذا الاتجاه المواقف الصادرة عن الفريق المؤيد لـ«حزب الله». وجرت رهانات على الاجتماع العربي على مستوى المندوبين، لكن مصر بلسان وزير خارجيتها حسمت الأمر بأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية تتطلب قرارا تتخذه الجامعة ويوافق عليه القادة العرب، وأن الموضوع غير مطروح لأنه مطلوب من دمشق السير خطوات جدية في الحل السياسي وفق القرار الدولي 2254 حتى يكون بالإمكان حسم الأمر.
سقطت المحاولة فتم «تذكر» قضية الإمام المغيب، وكالعادة شهد لبنان حفلة استثمار طائفي، بدا معها البلد طاولة بليارد. إنه «البليارد» اللبناني، يتم ضرب كرة الوفد الليبي فتُسجل إصابات مباشرة في مرمى رئاسة الجمهورية والحكومة الممنوعة والدستور ومكانة البلد وأمنه وسلمه ومصالح أبنائه. كل المواقف المتشنجة وما شهدته بعض شوارع بيروت والضواحي كان رسالة إلى الداخل، وتحديداً إلى رئاسة الجمهورية. ويبدو أن الفريق الممانع، والحديث هنا عن «أمل» و«حزب الله»، انتقل علانية إلى مرحلة عرقلة العهد وإفشاله، وهما يواصلان الكباش السياسي لفرض الإملاءات، فبعد تعثر فيلم النواب «السنة» أتباع الحزب في الإمساك بكل قرار البلد واستتباعه، يبدو أن الكباش سيتمدد ليطال كل الملفات، وعلى الآخرين أن ينصاعوا لمرحلة جديدة انتهت فيها الصيغة اللبنانية «لا غالب ولا مغلوب» لإحلال صيغة الغلبة الطائفية مكانها. والدليل الجديد أنه بعد جريمة القمصان السود «حزب الله» واحتلال بيروت في السابع من مايو (أيار)، 2008، التي أدت في اجتماع الدوحة الشهير إلى فرض البدع والأعراف وأهمها الثلث المعطل في إدارة الحكم، شهدنا جماعات القمصان الخضر (أمل) تستبيح الشارع دون وجل غير عابئة باحتمال انفلاته وتهديد السلم الأهلي في أي لحظة!!
إنه الانهيار، لأنه ليس هناك ما هو أكثر دلالة في بلد الأقليات الطائفية، من أن يقوم أحد الأطراف من خلال ممارساته بإبلاغ الجامعة العربية أن دخول أي طرف عربي إلى بيروت مشروط بموافقتنا (...) وإذا تذكرنا جيداً أن طهران تبجحت مراراً بالسيطرة على بيروت بصفتها واحدة من العواصم العربية الأربع التي تهيمن عليها، وأنها أعلنت بعد الانتخابات النيابية في مايو العام الماضي أن «حزب الله» بات يسيطر على أغلبية نيابية من 74 نائباً، فهذا يعني أن المجيء إلى لبنان يتطلب بعد الآن تأشيرة من نظام الملالي!!
بات خطيراً الوضع وكل ما يجري مخيف، لا سيما مع هذا الغياب الرسمي عن تحمل الحد الأدنى من المسؤولية. هناك انهيار وغياب لأي شبكة أمان. المؤسسات الدستورية من رئاسة جمهورية ورئاسة مجلس نيابي ورئاسة حكومة وكل المؤسسات التي تليها، لم تعد ملك الدولة ووسيلة حماية للناس والبلد، بل باتت ملك متسلطين على الطوائف، وحال الخيبة تعم أكثر الأوساط وبدأ يتردد في غير مكان تعابير من نوع: لا نريد أن نعيش معهم (!!) ودون أي مبالغة هذا الحديث يشمل كل البيئات اللبنانية.
فيما قضية العيش معاً تبقى مسؤولية محورية، لأنه تحديداً في هذه البقعة المتفجرة من العالم والمتشظية اجتماعيا، حظي العيش المشترك بأهمية غير مسبوقة، استناداً لدور لبناني سابق أثبت أن هذا النمط من العيش شكل مصدر غنى ولم يكن مجرد ضرورة فرضتها الحياة المشتركة، على حدِّ ما ذهب إليه سمير فرنجية أبرز مفكري «انتفاضة الاستقلال 2005» الذي يرى في العيش المشترك أبعد من مجاورة ومساكنة أو «أمان» زائف.
في هذه اللحظة ما عاد نموذج حكومة «الوحدة الوطنية» يشفي لبنان، لأنه لا يعبر عن وحدة ولا عن وطنية، في مرحلة هناك من يأخذ البلد المنكوب بالتبعية والفساد إلى التلاشي والأفول. النخب اللبنانية الرافضة للواقع المهين هي أمام تحدي العودة إلى السياسة للتأثير في عملية إعادة تكوين السلطة الجارية حالياً، لأن كل ما شهده لبنان من محطة التسوية في عام 2016 حتى تاريخه، معطوفا على أرجحية تراجع الحضور الإيراني في سوريا، يفسر كثيرا من الضغوط التي يمارسها «حزب الله» لإحداث تعديل في تركيب النظام السياسي بحيث يضمن سلطة تنفيذية طيّعة «ضامنة» لمصالح الخارج وتحديداً نظام الولي الفقيه. لبنان له أهله على اختلاف مشاربهم ويجب ألا يكون بمثابة التعويض لأحد.