سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

الحكاية الأُم في سياق الحكايات الخمسين!

الحكايات الأربع التي نقلتها «الشرق الأوسط» في عددها الصادر صباح الأحد، عن الكتاب الجديد للشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، نائب رئيس الدولة في الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، تظل أقرب إلى القطرة في ماء البحر، منها إلى أي شيء آخر، فلست أنت في حاجة إلى أن تشرب ماء البحر كله لتتعرف على المذاق العام فيه. وإنما تكفيك قطرة واحدة منه لتتأكد من مذاق الماء بين شاطئيه، ويكفيك أن تمد إحدى يديك إليه وترفعها إلى فمك، لتشعر بمذاقه على لسانك!
وإذا كان الكتاب يضم خمسين حكاية، جمعها صاحبها على مدى خمسين عاماً كاملة، هي عُمر المسؤوليات العامة التي تولاها في الدولة كلها مرة، وفي إمارة دبي مرات، وبواقع حكاية عن كل سنة، فليست الحكايات بين الغلافين من أجل التسلية، ولا هي دعوة إلى قارئ الكتاب لقضاء الوقت على سبيل استهلاكه، ولا هي كذلك رغبة في الترفيه عن قارئ عربي هو ملول بطبعه في غالب أحواله!
ليست الحكايات من أجل هذا الهدف، الذي على القارئ أن يتحراه في كتب أخرى إذا أراده، ولكنها تريد قارئاً على درجة من الوعي تستوعب الدرس الباقي في كل حكاية، وتستشرف الغرض الحقيقي الذي حرَّض صاحب الكتاب منذ البداية على أن يجلس، ثم يستجمع خمسين حكاية تناثرت على طول طريق دام نصف قرن من الزمان، في مقام النهوض بالمسؤوليات العامة ولا يزال يدوم!
وفي الحكايات الأربع التي نشرتها هذه الصحيفة، روى الرجل حكاياته مع لبنان، ومع صدام حسين، ومع بشار الأسد، ثم مع العقيد القذافي، وفي كل حكاية كان درسها حاضراً وراء السطور وبينها، وكان كاتب الحكايات يكشف في كل واحدة منها عن وجه عربي أصيل، يتجاور في داخله مع وجه إماراتي بالضرورة، فلا يفترق الحسان. وكان يكشف في عمق كل حكاية عن هذا الحس العربي راسخاً لديه. وكان يروي في صدق ظاهر، كيف أن حساً من هذا النوع كان يلازمه في كل وقت، فلا يفارقه، وكيف كان يؤلمه أحياناً أن يفتش عنه لدى آخرين في مواقف عربية مرَّ بها، فلا يكاد يعثر له على أثر!
ومن سطرين اثنين في حكايته مع الأسد، أحسست أن الحكاية الأم في الكتاب، ليست حكايته مع لبنان، ولا مع صدام، ولا مع العقيد، ولا بالطبع مع بشار الأسد، مع أهميتها كلها بطبيعة الحال. فالحكاية الأم هي حكايته مع إمارة دبي نفسها التي يجلس على القمة فيها. هي حكايته مع مدينة تمنى القذافي يوماً أن ينقل تجربتها إلى مدينة من مدن بلده، فمات - يرحمه الله - وفي نفسه شيء من دبي!
فلقد كان الأسد في زيارة إلى الإمارة، ذات يوم، وكان في رفقة الشيخ داخل سيارته، وفي لحظة توقف يسأل الشيخ محمد فيما يشبه الدهشة: كيف تديرون هذه الإمارة؟! وقد كان الرئيس السوري يعرف بالتأكيد كيف تُدار دبي، ولذلك، فالسؤال لم يكن عن الكيفية التي تجري بها إدارة الأمور فيها، بقدر ما كان عن السر الذي جعل طريقة الإدارة المعتمدة في دبي، تؤدي إلى حصيلة من نوع ما رآه رئيس سوريا بعينيه، وهو يتجول بين أرجائها، ثم كان السؤال في جانب خفي منه، عما إذا كان من الممكن نقل التجربة إلى مكان آخر، بحيث تعيد هناك إنتاج ما أنتجته نفسه على أرض الإمارات.
كان رد حاكم دبي على السؤال موجزاً، وكان دقيقاً في اختيار كلماته في الوقت ذاته، كان موجزاً عندما أجاب عن السؤال بأن إمارته تدار بعقلية أقرب إلى عقلية القطاع الخاص، منها إلى أي عقلية أخرى، وأن ذلك يتجلى في تقديم الخدمات العامة للجمهور فيها، وفي التميز في تقديم هذه الخدمات، وأن إنفاق المال العام فيها يتم بطريقة تحمل كثيراً من الكفاءة في الإنفاق!
ثم كان دقيقاً في انتقاء الكلمات؛ لأنه لم يشأ أن يقول إن عقلية الإدارة عنده، عقلية حكومية متطورة مثلاً، ولا قال إنها العقلية الخالصة للقطاع الخاص بكل ما يميزه عن غيره من إدارات الحكومة، ولكنه وصفها بأنها عقلية أقرب إلى القطاع الخاص، والمعنى أنها أخذت من العقلية الحكومية، ومن العقلية الخاصة، أفضل ما عندهما، ثم مزجت بينهما. وكان دقيقاً بالقدر ذاته وهو يصف طريقة إنفاق المال العام في الإمارة، بأن فيها كثيراً من الكفاءة في الإنفاق!
وهذه بالضبط هي حكاية دبي، ولو شئنا لقلنا إنها الحكاية الحادية والخمسون، وأنه أرادها وهو يضع الكتاب حكاية جامعة لما ورد فيه. حكاية إمارة كان القذافي يرغب في التعرف عليها، وفي نقلها إلى طرابلس عاصمة بلاده، ثم لا يستطيع؛ لأن الموضوع في النهاية ليس موضوع رغبة فقط، ولكنه موضوع إرادة قادرة على ترجمة ما تريده إلى فعل قائم على الأرض بين الناس. الحكاية هي حكاية إمارة أدهشت الأسد، فسأل عنها مدفوعاً بفضول جامح، ولكنه في الآخر لم يعرف كيف يتجاوز مرحلة الدهشة أمام التجربة، إلى مرحلة تالية تأخذها من أرض إلى أرض، ثم إلى المرحلة التي يكون الرهان فيها على البشر لا على الحجر!
وفي فبراير (شباط) قبل الماضي، كان جيم يونغ كيم، رئيس البنك الدولي المستقيل، قد أطلق من دبي، وتحديداً من فوق منصة القمة الحكومية التي تنعقد سنوياً فيها، صيحة عالية أرادها مسموعة في أنحاء المنطقة بقدر معقول، فقال إن الأوراق والمعلومات المتاحة أمامه تشير إلى أن حجم الإنفاق العام على التعليم في كثير من دول المنطقة، يفوق حجمه في مناطق أخرى على التعليم أيضاً!
وكان السيد جيم قد توقف قليلاً وهو يطلق صيحته من فوق منصته، ثم أكمل عبارته فقال إن في الأمر رغم ذلك مفارقة كبيرة، وإن هذه المفارقة هي أن عائد الإنفاق على التعليم هنا في الغالبية من دول المنطقة، ليس بكل أسف هو العائد المنتظر، ولا هو العائد المرتقب، وإنه عائد دون المستوى، ودون الطموح!
كان رئيس البنك الدولي الذي استقال من منصبه قبل أيام، يريد أن يقول لنا في منطقتنا بالعربي الفصيح، إن القضية الفاصلة في أي إنفاق عام، ليست فيه في حد ذاته أبداً، ولكنها في القدرة دائماً على تحقيق الهدف من وراء الإنفاق، وإلا، فما أكثر الإنفاق العام في مواقع كثيرة بامتداد العالم، وما أقل العائد الذي يحصل عليه المنفقون بين حكومات كثيرة، تظل تنفق دون أن تفكر في وضع هدف أعلى للإنفاق، قبل البدء فيه، وقبل تحديد مساراته في بنود الميزانية!
ومن السهل تلخيص ما أراد يونغ أن يقوله في عبارة من كلمتين اثنتين، جاءت ضمن الحكاية الأم بين الحكايات الخمسين، فالقصة كلها هي في هذه العبارة: «كفاءة الإنفاق»!
الحكاية الأم تقول إن دبي التي أثارت فضول بشار الأسد، هي في مضمونها كفاءة الإنفاق العام للموارد المتاحة، ثم تقول إن طرابلس التي رآها صاحب الحكايات الخمسين ذات مرة، فلم يصدق أن تكون على ما كانت عليه من بؤس، كان من الوارد لها أن تكون مثل دبي، وربما أحسن، لو أنها صادفت إنفاقاً عاماً لمواردها المتاحة الكثيرة على درجة من الكفاءة العالية، ولكن إنفاقها لم يكن يعرف مبدأ الكفاءة الذي نادى به جيم يونغ كيم، في إمارة كانت قد راحت من سنين تسبقه في تطبيق المبدأ ذاته على الأرض!