د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

تمويل التنمية العربية في عصر المربكات الكبرى

في ظل حالات الاضطراب وعدم اليقين المتزامنة مع الحراك السريع الذي يشهده عالم شديد التغير، يعاني من تقلبات بيئية وتغيرات مناخية، وزيادة في مخاطر الجفاف، وارتفاع موجات نزوح البشر وكثرة اللاجئين والمهاجرين قسراً بسبب الصراعات والكوارث الطبيعية، وتسارع وتيرة التحولات التكنولوجية في عصر أُطلق عليه «عصر المربكات الكبرى»، تجد الاقتصاد العربي، وقد أصابته، منذ بداية هذا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، من الملمات الجيوسياسية ما أصابه.
وبينما نجحت الأقاليم الاقتصادية حول العالم في تخفيض نسبة من يعانون من الفقر المُدقِع، إلا أن هذه النسبة قد زادت عربياً إلى الضعف من 2.6 في المائة إلى 5 في المائة في الفترة من عام 2013 حتى عام 2015، وفقاً لأحدث أرقام صدرت في عام 2018.
كما أن العالم العربي هو الأسوأ في عدم العدالة في توزيع الدخل؛ إذ يستحوذ أغنى 10 في المائة من السكان على 61 في المائة من الدخل القومي، في حين أن العشرة في المائة الأغنى في أوروبا لا يتجاوز نصيبهم 37 في المائة، وفي الصين 41 في المائة، الهند 55 في المائة، وذلك من دخولهم القومية.
ويعاني العالم العربي، الذي يشكل الشباب تحت سن الثلاثين 60 في المائة من سكانه، أعلى نسبة بطالة في العالم؛ إذ وصلت هذه النسبة إلى 10.6 في المائة، وهي تقترب من ضعف متوسط نسبة البطالة العالمية ومقدارها 5.7 في المائة. وهي أشد تركزاً بين شباب العرب وأعلى بين النساء مقارنة بالرجال. ويحتاج الاقتصاد العربي إلى توليد 10 ملايين فرصة عمل جديدة كل عام حتى يتصدى لمعضلة البطالة.
وتظهر دراسة تحليلية متميزة أعدها «المنتدى العربي للبيئة والتنمية» والصادرة في بيروت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن الاقتصادات العربية تحتاج إلى تمويل يصل حده الأدنى إلى 230 مليار دولار سنوياً، للإسهام في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأن الفجوة التمويلية في الدول ذات العجز المالي تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً. كما يشير التقرير ذاته إلى أن تكلفة الخسائر في النشاط الاقتصادي منذ بداية هذا العقد، بسبب الحروب والصراعات، تصل لما يزيد على 900 مليار دولار.
ويأتي تمويل التنمية العربية على سبعة محاور، أولها يعتمد على تعبئة الموارد المحلية بكفاءة، وإنفاقها بفاعلية على أولويات التنمية. وهناك حاجة إلى تحسين الموارد الضريبية للموازنات العامة العربية التي تبلغ متوسط 11 في المائة من الدخل القومي بما يقل عن المتوسط الموصى به بألا تقل إيرادات الضرائب عن 15 في المائة من الدخل القومي. وهذا يستوجب إصلاحاً مؤسسياً وتشريعياً، وتوعية وعدالة في تحمل العبء الضريبي، وانضباطاً في الإنفاق العام، وتفعيل مبادئ الشفافية والحوكمة، وإنفاذاً لأحكام القانون، وليس مجرد رفع لمعدلات ضرائب لا يتم تحصيلهاً. وتظهر تجارب التنمية الناجحة أيضاً أهمية حتمية لإدارة الموازنات على مستوى السلطات المحلية بمرونة وحصافة، وإلا ضاعت جل جهود الإصلاح هباءً.
ثانياً، تفرد خطة عمل تمويل التنمية مجالاً رحباً لمشاركة القطاع الخاص المحلي في تحقيق أهدافها، فلن تكفي موازنات الدول وحدها للقيام بمشروعاتها الطموحة. ودور القطاع الخاص لن يأتي من أبواب التبرع والأعمال الطوعية. ويبرز دور هذا القطاع، بأحجام مشروعاته المختلفة، في إتاحة فرص العمل، فهو المشغل الأكبر فعلياً للقوى العاملة.
كما يمكن للقطاع الخاص الإسهام في المشروعات التنموية الضخمة من خلال نظم مختلفة للمشاركة إذا صُممت العقود بإنصاف ووضوح بين أطرافها، وحددت مسبقاً التزاماتها دون تغييرات مفاجئة، وجهزت المشروعات القابلة للتمويل والاستثمار والإعلان عنها، وتم التنسيق بين أجهزة الدولة القطاعية والرقابية بما يوضح الأمور دون التباس.
ثالثاً، من أهم محاور تمويل التنمية ما يتعلق بتدفقات التمويل الخاص في شكل استثمارات أجنبية وغيرها. وتبرز «الإسكوا» التابعة للأمم المتحدة في دراسة لها، أن مقابل كل دولار من الاستثمارات يأتي للاقتصاد العربي فإن 1.8 دولار يخرج منها كاستثمارات في دول غير عربية أو كعوائد استثمار للشريك الأجنبي، علماً بأن الاستثمارات الأجنبية القادمة للعالم العربي في عمومها قد تراجعت، ولم تعد لمستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية. هذا فضلاً عن تزايد حجم الإيداعات العربية في الخارج في شكل ودائع مصرفية. كما أن الاقتصاد العربي مُصدر صافٍ لتحويلات العاملين بالخارج.
رابعاً، استقرت المساعدات الإنمائية الرسمية عالمياً عند متوسط 150 مليار دولار سنوياً، ورغم مطالبة الدول المانحة بالوفاء بتعهد منحها 0.7 في المائة من دخولها للدول الأقل دخلاً، فقليل من المانحين يلتزمون. لكن نصيب المنطقة العربية قد زاد مؤخراً بعد انخفاض لسنوات، وتوجهت المساعدات بالأساس للمجالات الإنسانية وعون اللاجئين.
خامساً، مع ارتفاع الديون في كثير من الدول العربية أصبح لزاماً عليها أن تحدد كيفية التنسيق بين مصادر التمويل المختلفة، وتفعيل نظم المشاركة بما يدفع بالنمو قدماً مع تخفيض أعباء الديون. وتحدد ورقة عمل مشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي كيفية التعامل مع متطلبات إدارة الديون العامة بزيادة قدرات الدول على التحليل الفني للديون وسياساتها، وتدعيم نظم الإفصاح والمعرفة والمعلومات لكي يتضح حجم الديون وتأثيرها، ورفع قدرات مؤسسات الدولة والتنسيق بين سياساتها في مجال إدارة الدين العام.
سادساً، ما زالت التجارة البينية في العالم العربي متواضعة عند نسبتها إلى إجمالي التجارة، فهي لا تتجاوز متوسط 10 في المائة في أفضل الأحوال وتعوقها تكاليف النقل واللوجيستيات رغم اقتراب المسافات. وهناك تقديرات بأن المتوسط الإقليمي العربي لإجراءات تيسير التجارة لا يتجاوز 56 في المائة في بعص التقديرات، فضلاً عن المعوقات غير الجمركية ومصاعب التجارة في الخدمات. وتتيح تكنولوجيا المعلومات والاقتصاد الرقمي، إذا ما استخدمت بكفاءة، فرصاً كبيرة لتدفق الصادرات والواردات العربية البينية.
كما أنه من الواجب في عالم اليوم أن يكون لدى الاقتصادات العربية استراتيجية متكاملة تختص بالتجارة الإلكترونية تسهم في التوافق مع متطلبات الثورة الصناعية الجديدة وأنماط نشاطها الاقتصادي القائم على المنصات الإلكترونية، وشبكاتها وقواعد البيانات الكبرى وتأمينها، وضمان تسوية مدفوعاتها، وتيسير أعمالها وحماية المتعاملين في نطاقها وتشجيع المنافسة والشمول لخدماتها وربطها بقطاعات الإنتاج.
سابعاً، لن تتحقق أهداف التنمية المستدامة دون الانتفاع بالعلم والاستفادة من التكنولوجيا والابتكار في عالم يشهد بزوغ الثورة الصناعية الرابعة، التي تمثل نقلة كبرى في انطلاق الاقتصاد الرقمي واستخدامات قواعد البيانات وتكنولوجيا المعلومات وما يرتبط بها من ابتكارات ومنتجات التي ستبدل حياة الناس والإنتاج بما لم تسبقها إليه أي من الثورات الصناعية السابقة. وفي هذا الصدد ينبغي مراجعة قوانين المعلومات مثلما فعلت أوروبا بتشريعها بشأن «القواعد الرقابية العامة لحماية البيانات». كما تجب مراجعة الكفاءة المؤسسية في التعامل مع البيانات والمعلومات في كافة مراحلها.
وهناك ثلاثة تقارير حديثة يمكن الاسترشاد بها، على سبيل المثال، للتحقق من القدرة على الاستفادة من الثورة الصناعية الجديدة وارتياد موجاتها القادمة. الأول تقرير عن الرقم القياسي الجديد لرأس المال البشري، الصادر عن البنك الدولي في عام 2018، الذي صنف اقتصادات الدول وفقاً لمؤشرات تفصيلية للتعليم والرعاية الصحية. ولم يكن غريباً أن تحتل سنغافورة وكوريا واليابان المراكز الثلاثة الأُوَل وتجد في ذيل القائمة، التي شملت 157 دولة، اقتصادات غنية بالموارد الطبيعية. أما العالم العربي، فكان أداؤه، باستثناءات محدودة، سيئاً لا يليق بقدراته. كما كانت تصنيفات أغلب الدول العربية سيئة أيضاً في التقريرين الآخرين: تقرير مؤشر الاستعداد للتغيير واستيعابه الذي تعده مؤسسة «كي بي إم جي» متضمناً قدرات الحكومات وقطاعات الأعمال والمجتمع المدني على اغتنام الفرص التي يتيحها التغيير، وتقرير وحدة الاستعلامات لمؤسسة «الإكونوميست» عن الإمكانات التكنولوجية المتاحة في كل دولة، من حيث استخدام شبكة المعلومات والبنية الأساسية للاقتصاد الرقمي والانفتاح على الأفكار والابتكارات، بما في ذلك براءات الاختراع والإنفاق على البحث والتطوير.
هذه هي المحاور السبعة لتمويل التنمية العربية بمكونات عملية متوافقة مع خطة عمل تمويل التنمية التي أقرتها الدول العربية كغيرها من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ويخطئ من يعتقد أن تمويل التنمية سيأتي من خلال صفقات مالية متناثرة أو إنفاق مشتت، بل يجب أن يستند إلى نهج متكامل قوامه سياسات متناسقة ومؤسسات ذات كفاءة. كما يجب أن يعتمد هذا النهج على توطين التنمية محلياً في منافسة بين المدن والأقاليم المختلفة داخل كل دولة لجذب الاستثمارات وتطوير وحدات الإنتاج والخدمات ورفع كفاءتها بما يحقق نمواً يولد فرص عمل وينفع عموم الناس.