«جزيرة الغفران» هو عنوان الفيلم المقبل للمخرج رضا الباهي الذي ينتقل حالياً ما بين لبنان وفرنسا وتونس تمهيداً لتصويره. هذه المرّة سيصوّر الباهي فيلمه في جزيرة جربا. وهو قال لنا: «بعد تجربتي في «زهرة حلب» قررت العودة إلى حكاية تنشأ في تونس وتبقى في تونس. «جزيرة الغفران» تستغل، كمكان تصوير، موقعاً طبيعياً خلاباً لحكاية درامية من بطولة شخصيات تعيش فوق جزيرة ما زالت على حالها منذ عشرات السنين وعلى أكثر من وجه».
يضيف:
«لن تكون الغاية تحقيق فيلم سياحي يجذب الناس إلى جربا، لكن مناظرها وطبيعتها البيئية وتعدد أطيافها من البشر، عرب وإيطاليين ومسلمين ومسيحيين ويهود، سيقوم بذلك على نحو تلقائي في اعتقادي».
علاوة على ذلك، البطولة النسائية فيها اسم كلوديا كاردينالي اللامع بحد ذاته. بذلك يعود المخرج الباهي إلى اختياراته السابقة حيث كان كثيراً ما يستعين بوجوه أجنبية في أفلامه. بالنسبة له، الدافع ليس فقط سهولة التسويق الخارجي بل الحديث عن شخصيات عربية وأجنبية ووجهات النظر المختلفة بين الثقافات.
ازدواجية
هذا المنهج هو أكثر مناهج الباهي مثابرة. العديد من أفلامه المنجزة من العام 1972 وحتى اليوم تتضمن طرح العلاقة ضمن حكايات بعضها لا يتبدى، في النظرة الأولى، كما لو كان معنياً بذلك الطرح.
في أحد أفلامه الأولى، وهو «عتبات ممنوعة» (1972) تناول الباهي، وبجرأة باتت نادرة في هذه الأيام، حكاية شاب يلحق بفتاة سائحة ويقوم باغتصابها عندما تتاح له الفرصة. إنه فيلم قصير (من نحو ثلث ساعة) حمل دلالات محددة أهمها الفارق الكبير ما بين عالم قابع في وضع اجتماعي مكبوت (على أكثر من صعيد) وآخر وصل إلى نقطة بعيدة من الحرية الشخصية والاجتماعية. وجود السائحة الشابة، على الرغم مما يبدو من أن أمر هذا الظهور طبيعي، هو الصدام بين الحضارات.
لكن «عتبات ممنوعة» بقي فيلماً صغير الحجم والإرث وكان على المخرج التونسي الانتظار خمس سنوات أخرى ليحقق فيلمه الروائي الطويل الأول «شمس الضباع» (1977) وهو الفيلم الذي جذب أنظار النقاد إليه.
بتمويل فرنسي (ونجاح عروض في باريس وسواها من المدن الفرنسية دام نحو ثلاثة أشهر متواصلة) توسع الباهي في هذا الفيلم في المضمون الذي طرحه عابراً في «عتبات ممنوعة». فـ «شمس الضباع» يتحدث عن ازدواجية المعايير. يفصح عن بعض جوانب العلاقة غير المتساوية بين الوافد وابن البلاد وكيف أن سياسة الانفتاح السياحي قبل تشييد الإنسان المثقّـف قد يؤدي إلى كارثة، وهو استعان للتدليل على ذلك بحادثة فعلية وقعت في بلدة القيروان فعلاً.
في هذا الفيلم ضم إلى الممثلين التونسيين (ومن بينهم صالح بنموسا وتوفيق قيقا) الممثلة الفرنسية هيلين كاتزاراس (التي عادت فظهرت في فيلم تونسي آخر هو «حلفاوين» لفريد بوغدير سنة 1990).
رغم النجاح الذي حققه الباهي في «شمس الضباع» تأنى في اختيار فيلمه التالي بضع سنوات. وفي العام 1984 أنجز «الملائكة»، هذه المرّة ذهب المخرج شرقاً إذ تم تمويل الفيلم من قِبل منتجين كويتيين وأسند البطولة إلى فريق من الممثلين المصريين من بينهم كمال الشناوي ومديحة كامل وليلى فوزي.
مثلث اجتماعي
الصدام الحاصل هنا هو بين الفن والمادة والقصة، التي وضعها رضا الباهي بنفسه، كما هي عادته، حاولت الابتعاد عن القصص العاطفية السائدة ونجح في هذا السعي إلى حد ملحوظ.
بعد عامين، عاد رضا الباهي أقوى مما كان عليه. ارتبط بتمويل أجنبي في حكاية درامية تمتد من الخمسينات لما بعدها وتحتوي على ذلك الخط الاجتماعي حول تعدد الهويات الثقافية. الفيلم هو «وشم على الذاكرة» الذي ما زال من بين أفضل أفلام الباهي إلى اليوم.
حكاية الغربة إذ يداهم استقلال تونس سنة 1955 شخصياته الأجنبية التي تعيش فوق أرضها. البعض يقرر العودة والبعض يبقى وممن يقرر البقاء المغنية بَتي (كريستي) المرتبطة بعلاقة مع بول لكنه ليس الوحيد الشغوف بها بل ابنه غير الشرعي ونيس (باتريك برووَل) ما يخلق قدراً ملحوظاً من استعادة العقدة الأوديبية الشهيرة.
لكن الفيلم هو أكثر من حكاية حب كون ما يدور في أرجائها من عواطف له علاقة بالانتماء أو دونه. بالرغبة في الانعتاق من الماضي حتى من دون أن تتشكل ملامح المستقبل.
يشرح الباهي منطلقه في هذا التوجه فيقول:
«أحاول في أفلامي البحث عن علاقة الفرد بالآخر التي قد لا تكون متساوية لا في الثقافة ولا في المعرفة ولا في العاطفة. كذلك هناك المكان بحد ذاته. البيئة التي تحوي تلك العلاقات الفردية وهي بحد ذاتها تصبح عضواً مهماً في هذا التشكيل لأن المكان أكثر ما يربط الإنسان به وأكثر ما يدفعه للابتعاد عنه».
أمضى المخرج ثماني سنوات ما بين البحث عن فكرة وكتابة سيناريوهات وتذليل عقبات قبل العودة في فيلم جديد عنونه «السنونو لا تموت في القدس» حاول فيه تصنيف القضية الفلسطينية من زاوية جديدة لم تتطرق إليها الأفلام الفلسطينية أو ذات الشأن الفلسطيني. فالفيلم يجسد ذلك المثلث القائم على مجتمعين وثقافتين من ناحية وعلى التناقض الآتي من عمق التاريخ من ناحية ثانية ثم على المكان ذاته الذي يجمع بين هذه التناقضات. والبطولة فيه كانت لعرب (بينهم ريم تركي ويوسف عياني وعامر خليل) وأجانب (منهم الفرنسيون جاك بيرين وفرنسوا ريغال ولورنس ماسليا).
تجسيد هذه الفكرة ذات القوائم الثلاثية بلغ ذروته في فيلم الباهي اللاحق «صندوق عجب» (2002). الحكاية قريبة هنا من حياة المخرج الخاصة: عائلة مؤلفة من الزوج التونسي والزوجة الفرنسية والابن الحائر. هناك تاريخ عائلي وتاريخ سينمائي فالعنوان يرمز إلى الآلة اليدوية التي كانت تستخدم لعرض الأفلام وكانت تُكنى بـ«صندوق عجب»، لكن المحيط يندفع بشدة صوب تحليل العلاقة بين أفراد العائلة ورغبة الزوجة في الهجرة عائدة إلى فرنسا.
بعد هذا الفيلم الذي شارك ببطولته ماريان باسلر وهشام رستم و(المخرج لاحقاً) عبد اللطيف كشيش، أنجز الباهي حلماً راوده منذ سنوات وكان يرغب في إسناد دور أساسي فيه للراحل مارلون براندو.
«لم يكن براندو في حاجة للإقناع. كان بحاجة لفيلم مكتوب جيداً». قال الباهي بعدما التقى الممثل براندو قبل وفاته بعدة أشهر. المادة الروائية التي تتحدث عن لقاء حضارات عاصف بين الشرق العربي والغرب الأميركي تحولت إلى فيلم تسجيلي بعنوان «دائما براندو»، لكن ما لم يغب عنها هو ذلك الصراع.