محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

الحقائق البديلة في لبنان

هل الكتابة عن لبنان «عبث»، سواء جاءت من كتّاب لبنانيين مستقلين! أو من غيرهم من معلقي الخارج، حيث البلد لأي عاقل «مختطَف» من النظامين «الأسدي» و«الخامنئي»، أم أن هناك شقاً صغيراً يتسلل منه ضوء يمكن أن يكتب لتشخيص «المرض اللبناني»؟! ليس لأن اللبنانيين لا يعرفون، ولكن لأن كثيرين منهم إما لا يريدون أن يعرفوا وإما يتحدثون عما يعرفون بالألغاز أو الاستعارة، اختباءً مما يمكن أن يصيبهم من سوءٍ، أقله فقْد حياتهم!
الوطن اللبناني هو وطن متخيَّل. هو وطن حقيقي فقط في أغاني فيروز، أما الباقي فهو إما مجموعات ميليشياوية مسلحة أو غير مسلحة، وإما مجموعات سياسية فاقدة القدرة على الفعل، تتخاطف في ما بينها «الوطن» من أجل تمزيقه، ويُترك مجموع الشعب اللبناني «الذي ليس له ظهر ميليشياوي» لحياة بائسة، أساسها القهر، وتردي الخدمات، وتدهور الاقتصاد. الميليشيات «المسلحة أو غير المسلحة» من كل الطوائف، أو على الأقل قيادتها العليا المتنفذة، لا يبزها أحد في التكاذب بعضها على بعض، فما إن يرى قائد «سياسي أو ميليشياوي» ميكروفوناً أمامه، حتى يتحدث عن «المقاومة» كأنه ذاهب في التوّ والحال إلى ميدان المعركة. هو يعرف وسامعوه أيضاً يعرفون أن كل ذلك في حده الأدنى «تكاذب». ولأنه لا يوجد شعور مشترك بوطن واحد.
لم يذهب إلا القليل إلى القمة العربية الاقتصادية الأسبوع الماضي، ليس نكراناً للبنان ولا لشعبه، بل لأن الدولة غير موجودة، فالقمة تُعقد عادةً في دولة لها أركان معروفة، ولها عنوان يسمى الحكومة أو رئيس الجمهورية، يؤخد بكلمته، ولها رأي واحد في من يحضر ومَن لا يحضر إلى أرضها. ما إن اقتربت القمة حتى بدا بعض قادة الميليشيات يفرضون على «الدولة الهشة» مَن يحضر ومَن لا يحضر، وإذا حضر فلان فلا أمن في العاصمة أو حولها! تلك فروض مهينة لأي دولة، ومع ذلك تكاذب أهل الحكم بعضهم على بعض، وبدلاً من مواجهة الحقيقة ذهبوا إلى ما يُعرف بـ«الحقائق البديلة».
بُني التحالف بين «الرئيس القوي» و«حزب الله» على أكذوبة أخرى «تحالف الأقليات»! واشترط الأخير على الأول حكماً: نحن نوصلك إلى سدة الرئاسة، ولكن تحكم بأمرنا! وجُلّ ما جاء من قرارات الرئاسة منذ وصول الرئيس القوي، جاء بموافقة «حزب الله»، الذي قدم هامشاً ضيقاً للرئيس في الموضوعات الجانبية، واحتفظ لنفسه بالقرار في القضايا الرئيسية، مثل شروط تأليف الحكومة، أو من يحضر الاجتماعات الكبرى. من نافلة القول: إن «لبنان القوي» يردد دائماً قصة «المقاومة» ويرفعها لاهوتاً ثانياً، ويستحضرها لتغييب الدولة، وهي، أي المقاومة، «خيال مآتة»، منذ متى؟ منذ أن صرح حسن نصر الله بُعيد حرب عام 2006 بالنص: «لو كنت أعلم بأن هذه المعركة كانت ستؤدي إلى هكذا نتائج، لما أقدمت على هكذا عمل». تلك هي الحقيقة المدونة بالصوت والصورة، أما النصر وخلافه من الشعارات اللاحقة فهي للعوام، يستهلكونها مع شدّ دخان النارجيلة!
معظم أنصار «لبنان القوي» وآخرون يعرفون أن المقاومة هي في حقيقتها «مقاومة قيام الدولة اللبنانية» لا غير! هذا التحالف على الرغم من أنه، كما اتضح، يعطل قيام الدولة بأقل واجباتها، كدعوة حكومات لحضور مؤتمر لا يتعدى زمنه يومين، هو في الواقع تحالف مصلحي لفئة صغيرة ولمكاسب جانبية، وما زال يطلب الطرف القوي من الطرف الضعيف في التحالف، أن يجهر بملء صوته بـ«عودة اللاجئين السوريين دون الوصول إلى حل سياسي»، أي إرسال هذا المليون من البشر البسطاء والمعدمين إلى حتفهم، وقذفهم دون حول ولا قوة إلى فوهة نظام فئوي قمعي شرس، لا يتردد في قتلهم بدم بارد! بل وطالب الطرف الضعيف بأوامر من القوي، بعودة سوريا الأسد إلى الجامعة العربية، وقصر عن القول: إنه وجب الاعتذار إليها على تجميد مقعدها في الجامعة العربية!
أيُّ فرادة لهذا النظام القوي الذي يرغب في البقاء في مكان القرار دون قرار؟! المعادلة مقلوبة بين: الثنائي الشيعي المتماسك الذي يقابله ثلاثي سني مفكَّك ورباعي مسيحي مختصم، وبعض من قوى الثلاثي والرباعي تميل إلى اتباع الثنائي طلباً للمغانم، وترضى بتعدد حمل السلاح. قيام لبنان لن يتم إلا بوحدة السلاح واحتكار الدولة له فقط. تلك الدولة المرجوة لا بد أن تتخلص من الميليشيات المسلحة وغير المسلحة وقوى «الشارع» الذي يقول «لا تجربونا»! وهم متخمون بالامتيازات، يتقلبون في النفوذ. هذا الرأي والأقوال المشيرة إلى الرفض من جانب جناح مسيحي وسني واسع تخرج من الحناجر مترددة، وبحشرجة غير مفهومة، لأنها أيضاً واقعة أمام سيف التهديد والتصفية. في هكذا وطن لا يمكن أن تُعقد قمم ناجحة أو حتى نصف ناجحة. هل كل ما تقدم خافٍ على النخب اللبنانية؟ لا أعتقد ذلك، ففي لبنان من الحصافة والتبصر من البشر لمعرفة ذلك، ولكنه «داء التكاذب» الذي انتشر بين النخب، وأن «الأزمة الوطنية» يمكن أن تُحل بمرور الزمن، وهذ أيضاً خيال محض. يعتقد طرف «المقاومة»، وهي خليط من القوى المتعارضة، أن نظام بشار الأسد قد انتصر، وأنه من الممكن أيضاً عودة «النفوذ السوري» من جديد على كل لبنان، ذلك فيه تضخيم، ومن جملة الحقائق البديلة، إن صحّ التعبير؛ فهكذا نظام مهما كان سنده، لن يبقى أو يستمر كما كان، ذلك من الفهم الواهن لمسيرة التاريخ.
صحيح القول: إن «الأزمة اللبنانية» بكل تشعباتها هي خارجية في الأساس، أو جسم كبير منها خارجي، وإن لبنان ليس أكثر من ساحة من ساحاتها الصراعية الكثيرة، ولكن الصحيح أن السياسيين اللبنانيين «سلموا لقوى الخارج غير العربي»، وإنهم أو قوى لبنانية مجتمعة تستطيع، إن تركت كلاً من «التكاذب والاستزلام» في الجانب المسيحي والجانب السني وكتل شيعية وازنة، أن تُخرج لبنان من سيطرة القوى الميليشياوية، أو على الأقل تحدّ من نفوذها. مظاهر ذلك الخروج أن يمتنع البعض من ترديد مقولة «المقاومة» في الشاردة والواردة! فهي أضحوكة، والكل يعلم أن ذلك شعار مفرغ من محتواه، إن كانت المقاومة تعني «الدفاع عن حقوق الفلسطينيين» فبعضهم في الدار اللبنانية، وتقول الرسالة الرسمية في نفس الوقت، وعلى رؤوس الأشهاد، إن ذلك ثقل لا يطيقه الوطن اللبناني (خطاب الرئيس في القمة الاقتصادية)، فذلك تناقض من جملة التناقضات الكثيرة في الساحة اللبنانية. الأطراف المتضررة في لبنان كثيرة من وجود الميليشيات المسلحة، والقوى شبيهة بقوى «البلطجة» في ظل ذلك الوضع الرمادي. لا يبقى للدولة اللبنانية شيء يدل على الدولة، وتلك حقيقة تُعرف ولا تُقال، إلا أن تكون دولة كرتونية وفاشلة!
آخر الكلام: الديمقراطية اللبنانية لها قواعد خاصة بها هي «أنْ لا قواعد»، فهي مطاطة، كما يمطّ الشعب اللبناني شفتيه عندما لا يعجبه شيء، ويقول «شو هيدا...»!