خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

شرفت يا سيد «بيكسل» ـ 25 يناير

أقوى قصص الحب في التاريخ تلك التي خُنقت لأسباب خارجة عن إرادة الحبيبين. يصر خبثاء أن السبب الوحيد في تعلقنا بها هو انطفاؤها في مهدها، لا خصائص الحب نفسه. يصرون أيضا - قاتلهم الحب - أن الحب ذاك لو استمر لكان عاديا كغيره. لتوقف عنتر عن مغازلة عبلة، وتدخل الجيران لتهدئة روميو وجولييت في معاركهما الزوجية.
منهيون نحن عن ذكر مساوئ الحب الميت، مأمورون بذكر محاسنه. سلوك مريح للنفس. مضر بالحقيقة. وفي للذكرى خائن للمستقبل، ولا سيما إن كان الميت زعيما، أو حدثا سياسيا، أو كليهما.
لو ماتت الثورة الإيرانية في عامها الأول، لظلت ذكرى باقية وحلما عطرا. لكنها عاشت لنعلم أنها كابوس. حولت بلدا كان في وضع سيئ إلى بلد في وضع مزر.
25 يناير لا تزال عند بعض «مفتقديها» «ولد موت». وهي عبارة تطلق في مصر على من يموتون صغارا، باعتبار أن الموت اصطفاهم لنفسه، إذ كانوا - يا سلام - ملائكة تمشي على الأرض.
لكن بعد ثماني سنوات، لا يصح أبدا التعامل بهذا المنطق. عاشت 25 يناير ما يكفي لنعرف بأي ذنب وئدت. وعاشت توائمها السياسية فرأينا الأوزار التي اقترفت. ليس في التحليل مكانٌ لـ«لو» إذ انقضى الأمر ورأينا مكوناتها تحت المجهر. لا أقصد فقط مكون «الإخوان العثمانيين» الذين أرادوا إلحاق المنطقة بمشروع توسعي مقره إسطنبول وخزانته قطر. هذه كارثة كبرى لو استمرت لحولت مصر إلى إيران أسوأ.
بل أيضا القوى الراديكالية التي تحالفت معهم، الاشتراكيون ودوائرهم. في مشهد يذكرنا هو الآخر ببدايات الثورة الإيرانية. الفارق طبعا أن نصيبنا من قيادات يناير الإسلامية لم يكن أكثر من صورة معاصرة من المماليك، يتلقون أوامر الآستانة ويوزعونها على عواصمنا. حتى ثورة طهران لم تنزل إلى هذا المنحدر. بعض هؤلاء الاشتراكيين مجرد إسلامي «إخواني» متخف، وظيفته التسلل إلى مواقع لم تكن سيطرة الإسلاميين عليها لتقبل، كمجالات الثقافة والإعلام. ستجد هؤلاء في إسطنبول الآن. بعضهم الآخر في التحالف العثماني أيضا.
لم يكن في خليط المكونات ذاك من أمل في مستقبل تنموي ولا ديمقراطي. الدول الديمقراطية وصلت إلى الديمقراطية من خلال التنمية المرتكزة على المشروعات الفردية، وحرية العمل والتملك. تلك التي نتجت عنها بعد حين مراكز اقتصادية متعددة، متنوعة، تحول نفوذها الاقتصادي إلى نفوذ سياسي، فولدت الحكم التعددي. مسار استغرق في بريطانيا والعالم الغربي قرونا، وأفرز خلال تلك القرون كتابات وإبداعا فكريا بلور شكل المجتمع الجديد. ونحت عقله.
أبحث لدى هؤلاء وفي أدبياتهم عن أي من تلك القيم: أين سياسات جذب الاستثمار حتى تتعدد الأنشطة الاقتصادية والكفاءات المهارية؟! كلاهما يحرض إما على الأجانب أو الأغنياء، ويحرم أو يجرم نصف آفاق الاستثمار. أين الحريات الشخصية؟ سرعان ما خرجوا علينا بمقالات تقترح أن نستغني عنها ثمنا بخسا مقابل «الحرية». اكتم الضحك! أين المواطنة التي تساوي بين الجميع؟ هذا طائفي ديني وذاك طائفي طبقي.
تلك التيارات الاشتراكية الراديكالية نفسها - ولهذا دلالة - غنت سابقا لثورة الخميني «إيران يا مصر زينا»، ولقاتل السادات. القربى بينهم وبين الإسلام السياسي ليست صدفة ولا وليدا حديثا. لقد برز خطر «الإخوان العثمانيين» لأنهم أقوى. لكن أفكار الراديكاليين الاشتراكيين الذين قدموا أنفسهم قناعا لـ«الإخوان» ليست أقل إسهاما في انحدار المجتمعات وانسداد أفق التطور.
هذا عن الرموز، فماذا عن «الشباب الطاهر»؟! وكثير منا منهم. أتساءل لماذا «الراديكالية» في مجتمعاتنا طالما أغرتهم.
أول الأسباب من وجهة نظري ضيق منافذ الأمل. هذه مسؤولية السلطة السياسية. نعم. لكن ليس وحدها. أبرز أهداف القوى الراديكالية الإسلامية وحلفائها الإصرار على سد منافذ الرخاء، لكي يعيش الناس في ضنك. والضنك يجعل المرء مستعدا للتعلق بأي أمل ولو كان واهيا. ليس اعتباطا ولا حتى تدينا ضرب السياحة وصناعة السينما، والتحريض ضد المستثمرين، وضد الأجانب، ومعاداة فرص السلام. هذا غرض سياسي. والدليل أنهم لا يمانعون في أي من هذا في تركيا. خطأ السلطة السياسية الأكبر هو التسامح معهم في هذا أو الرضوخ لهم. مماليك الداخل موكلون بمهمة تجريد «الولايات العثمانية المستقبلية» من أسباب القوة، والإبقاء على أسباب النقمة.
ثانيها، تقييم المجتمع الذاتي لقدراته. المجتمع الواثق بنفسه، الذي يرى بعينيه قدرته على الإنجاز، لا يمانع في خوض مشوار المسابقة كما يقتضي. المجتمع فاقد الثقة بنفسه يريد أن يعيش في وهم أن تحقيق الإنجاز سهل وبسيط وسريع وأحادي الخطوة.
المكون العصري الحداثي ذو الوعي السياسي والاقتصادي المعاصر كان ضئيلا جدا في يناير. وسرعان ما انفض عنها. ولم يشارك في تحويلها إلى صنم. ليس رفضا للتغيير، ولكن فهما أن التغيير ليس غرضا في حد ذاته. الغرض هو التغيير إلى الأحسن.
بعض «حسني النية» في 25 يناير رأوا أفعالهم وقد صبت لخدمة مصالح تنظيمات سيئة النية، جاهزة بمخططاتها. هؤلاء معذورون بجهلهم وقتها. أما تكرار نفس الخطأ الآن بالاستمرار في تمجيد يناير، فيحتاج إلى وقفة... أنت - بنيتك الحسنة - لست أكثر من «بيكسل» في صورة تحوي ملايين «البيكسلات». «البيكسل» التي تعتقد أنها تمثل الصورة هي «بِيكسل» متضخمة «الإيغو». «البيكسل» التي تعتقد أن لونها الودود يمثل مجمل الصورة القاتمة «بِيكسل» تعيش في وهم.
«الإخوان العثمانيون» ودوائرهم يحتفون بـ25 يناير لخدمة رسالة معينة، مفادها أنهم هم «الشرعية». هنا تحتاج إلى إضافة بعض من إنكار الذات إلى ما كان لديك من حسن النية. بعض من التضحية بذكرياتك لكي لا تخدم هذا الغرض. حان الوقت لأن تدرك أن نيتك الحسنة لم تكن تمثل إلا جزءا ضئيلا جدا من الحدث. وأن الأهم لبلدك وللمنطقة ولمستقبلنا حمايتها من سرطان الإرهاب بأفكاره ورصاصه وسلطويته وولاءاته وبراءاته.
هل تفعل ذلك. أم سيظل السيد «بيكسل» معتقدا أنه هو الصورة؟