فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

اتفاقية أضنة: استدعاء لهدف آخر

وسط محتويات الملف السوري الكثيرة والمعقدة، رمى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في لقائهما الأخير ورقة اتفاقية أضنة السورية - التركية باعتبارها أحد نواظم العلاقات السورية - التركية، التي اتفق عليها الطرفان قبل عقدين من السنوات.
خطوة الرئيس الروسي جاءت في مواجهة المطلب التركي بمنطقة آمنة في الشمال السوري، تحفظ في الأهم منها الأمن القومي التركي الذي يهدده في الشمال السوري وجود قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ونشاطها، وقلبها الفاعل وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd) والذي تعتبره تركيا منظمة إرهابية، تشكل خطراً على أمنها القومي.
خطوة بوتين بطرح اتفاقية أضنة، تفتح مساراً آخر في العلاقات الروسية - التركية وموقف الطرفين من نظام الأسد. بوتين في طرحه لها، يعارض بصورة جوهرية المساعي التركية لمنطقة آمنة في الشمال ومنها المناطق التي تسيطر عليها (قسد)، ويؤشر إلى ضرورة استعادة الأوضاع التي كانت تحيط بالاتفاقية عام 1998، ومنها سيطرة نظام الأسد على منطقة الشمال، وعودة العلاقات مع نظام الأسد ولو من بوابة التنسيق والتعاون لتنفيذ الاتفاقية. والأتراك، على لسان الرئيس إردوغان، وتجنباً لمزيد من المشاكل مع الروس، لم يعارضوا إعادة تفعيل الاتفاقية بالتركيز على ما يشرعن وجودهم وسياساتهم، واعتبروا تفعليها، حسب وزير الخارجية أوغلو، يعطي تركيا الحق في التدخل العسكري المباشر، بما يؤدي إلى منطقة آمنة دون أن يقولوا ذلك صراحة. أما نظام الأسد حسب الخارجية، فوجد في طرح ورقة أضنة فرصة لإدانة السياسة التركية في القضية السورية، وأكد أن تطبيق الاتفاق بين الطرفين، يعني العودة إلى ما كان عند توقيع الاتفاق، بما يعني خروج القوات التركية من الأراضي السورية، ووقف التدخلات التركية في القضية السورية، وهو ما يتوافق في الجزء الأهم منه مع الموقف الروسي.
وتشكل الآراء المتناقضة للأطراف الثلاثة حول اتفاق أضنة مدخلاً لاستعادة المهم في محتوياته، وما أحاط به من بيئة سياسية - عسكرية، تم التوصل إليه في خلالها، والتي جعلت منه اتفاق إذعان وغير مشروط من جانب نظام الأسد الأب، وانتصاراً كبيراً للسياسة التركية في عام 1998.
ففي ذلك العام بلغ الصبر التركي إزاء نشاطات حزب العمال الكردستاني(pkk) حدوده الأخيرة، فوجهت الحكومة التركية تهديدات علنية لنظام الأسد بدفع قواتها وصولاً إلى دمشق، إذا لم تقم الأخيرة بوقف دعمها (pkk) وعملياته المسلحة في تركيا، وأن تطرد قياداته وكوادره وعلى رأسهم عبد الله أوجلان من سوريا، وأن تعتبره تنظيماً إرهابياً.
وحسب الوقائع، فقد أدرك الأسد الأب جدية التهديدات التركية، وخصوصاً بعد مراجعته الوضع الأمني - العسكري على جانبي الحدود بين البلدين مع كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، ولاحظ أنه لا يقابل التحشدات العسكرية التركية بما فيها الفرق المدرعة والطيران على امتداد مئات الكيلومترات، غير ما يزيد قليلاً على مائتين من مخافر شرطة للحراسة لا وظيفة لها سوى قمع السكان المحليين ولا سيما الأكراد، فأدرك على الفور خطورة التهديدات التركية، فطلب وسطات، كانت بينها وساطة مصرية وأخرى من الأمين العام للجامعة العربية، مهدت للقاء الجانبين في أضنة عبر ممثلين أمنيين لمعالجة الوضع، واختار أحد أهم أعمدة النظام الأمني في حينها اللواء عدنان بدر حسن مدير الأمن السياسي رئيساً للوفد السوري الذي ضم الأهم في قادة الأجهزة الأمنية الرئيسية، وكانت التوصية، وقعوا على ما يطرحه الأتراك في إشارة واضحة من الأسد لتجاوز التهديدات، التي لا شك أنه لمس جديتها، وقدرة تركيا آنذاك على تنفيذها دون أن يمنعها أحد، وهكذا تم توقيع الاتفاقية، التي تكتم السوريون والأتراك على محتوياتها لوقت طويل.
لقد نفذ نظام الأسد على نحو سريع ما طلبه الأتراك، ووضعوه في نص الاتفاقية، فطرد أوجلان وعدداً من قادة (pkk)، وأغلق مكاتبه ومعسكراته في مختلف المناطق، ومنع أنشطة (pkk) بما فيها الأنشطة السياسية والثقافية والاجتماعية، واعتقل كثيراً من كوادره بتهم متعددة بينها الإرهاب واجتياز الحدود بطرق غير مشروعة وغيرها، وقدم قوائم بهم للأتراك. ولم يكن التنفيذ التزاماً بالاتفاقية فقط، وإنما بسبب كم هائل ومهم من معلومات يملكها الأتراك عن وجود ونشاطات وقادة (pkk) فاجأوا السوريين بها، وشملت أسماء وعناوين وصوراً وأرقام هواتف، حصرت النظام في زاوية ضيقة.
وأدت إجراءات نظام الأسد التي ترافقت مع اعتقال الأتراك لزعيم (pkk) عبد الله أوجلان في عملية أمنية محكمة إلى تدمير (pkk) ووقف نشاطاته المسلحة في تركيا وأغلب نشاطاته في خارجها، وهو ما كان يرغب فيه الأتراك، ولم يعد للاتفاقية أي أهمية عملية، مما جعلها تذهب إلى طي النسيان، وليس أدل على ذلك من عدم اهتمام الأتراك ببدء عناصر (pkk) وكوادره في سوريا تحركاتهم لإعادة تنظيم أنفسهم في عام 2004، والتي تمخضت في إحدى نتائجها آنذاك عن تشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي(pyd)، فيما كانت العلاقات التركية مع النظام ورئيسه بشار الأسد تتحسن بصورة واضحة، الأمر الذي يؤكد أن اتفاقية أضنة، جاءت لتعالج أزمة محددة في حينها، ولم يعد لها وجود إلا في أرشيف العلاقات السورية - التركية.
إن استعادة اتفاقية أضنة على نحو ما فعل الرئيس الروسي، ودفعها لتكون في نواظم علاقات تركيا من نظام الأسد أمر يتجاوز مضمون الاتفاقية والبيئة التي ولدت فيها، وقد تغيرت الأوضاع بصورة جذرية في العقدين الماضيين، مما يؤكد عدم صلاحيتها، والموافقة التركية على استعادة الاتفاقية وما احتوته من شروحات، ليس أكثر من مسايرة تركية للروس، هدفها عدم خلق مزيد من الخلافات، مع تأكيد الخط العام للموقف التركي في القضية السورية، ووحده نظام الأسد بدا مرتبكاً في موقفه بالموافقة على عودة العمل باتفاقية، تضمنت إذعانه لإملاءات تركية تحت التهديد، ورفضها على نحو ما يفترض، فيما يسعى إلى استعادة سيطرته على ما تبقى من الأراضي السورية الخارجة عن سيطرته، وبسبب ذلك الارتباك، ركز بصورة أساسية على انتقاد السياسة والتدخل التركي في سوريا، وهو كلام لا معنى له في ضوء التدخلات الإقليمية والدولية الكثيرة الحاصلة في سوريا.