د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

في ذكرى 25 يناير

رغم أن «الثورة» التونسية التي نشبت في ديسمبر (كانون الأول) 2010 كانت الأولى بين «الثورات» التالية التي جرت في أكثر من بلد عربي، فإن ما حدث في مصر يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011 ربما كان الحدث الأكبر الذي كان له تأثيرات كبيرة على البلد الأكثر سكاناً بين العرب، وبلدان عربية أخرى، ولعله كان الواقعة التي شهدت المراجعة من خلال ثورة أخرى جرت في 30 يونيو (حزيران) 2013، ما بين الثورتين الأولى والثانية بدت القصة كما لو كانت أولاً تعبيراً عن ظاهرة شبابية غذتها أدوات التواصل الاجتماعي، ودفعت بها إلى ميدان التحرير وميادين أخرى في عواصم المحافظات المختلفة مطالبة بالتغيير في الحكم، وتحقيق أهداف نبيلة أخرى.
وثانياً، أن الثوار الشباب لم يعرفوا حقيقة ما يريدون، والأهم كان أنهم لا يعرفون قطعاً كيف يحققون ما يتحدثون عنه، وفيما بعد عندما جلس هؤلاء في غرفات الوزارات المصرية المختلفة باعتبارهم «الورد الذي تفتح في جناين مصر» لم يكن هناك أكثر من طفولة ثورية فيها شعارات كثيرة يقدمونها للبلاد.
وثالثاً، أن القوة المنظمة الوحيدة مالياً وتنظيمياً وعسكرياً كانت جماعة الإخوان المسلمين التي عزفت عن «الثورة» في أول أيامها، ثم دخلتها مع ثالث الأيام في «جمعة الغضب» لكي تنظم الميادين، وتطلق أعضاء التنظيم من السجون، ومعهم كل الجماعات الإرهابية الأخرى، وهذه ذهب بعضها إلى بلادهم في فلسطين ولبنان، وبعضهم الآخر بقي في مصر لكي يبدأ طريق الإخوان إلى الحكم.
ورابعاً، أن القوة المنظمة الوحيدة المعبرة عن الوطنية والدولة المصرية كانت هي القوات المسلحة التي انتقلت لها المسؤولية من الرئيس مبارك، وهي التي كان عليها خلق معادلة جديدة يجري فيها التغيير والإصلاح من ناحية، والحفاظ على سلامة البلاد من ناحية أخرى.
وخامساً، أن «ثورة يناير» ربما كانت أسرع الثورات في تاريخ العالم التي فقدت قدسيتها وعفّتها بسرعة؛ ورغم أنها حصلت على مكانة في الدستور المصري لعام 2012، ثم المعدل 2014، فإنها أصبحت في صحبة ثورة أخرى في 30 يونيو 2013، هي التي دانت لها الشرعية في البلاد حتى الآن.
لكن، كل هذه التطورات لم تمنع أن تظل «ذكرى ثورة يناير» قائمة؛ فالمصريون لا يتخلون بسهولة عن الذكريات، كما أن تاريخهم دائماً متصل وموصول بطريقة أو بأخرى، تقوم بها الدولة أو يقوم بها الشعب أو كلاهما معاً. ومع كل ذكرى سنوية، فإن المثقفين والكتّاب في مصر ينقسمون على هذا الحدث الأهم في تاريخهم المعاصر. وكما هي العادة في الدول العربية، فإن الانقسامات لا تعرف ظلالاً أو ألواناً محايدة، وإنما هي إلى الأبيض والأسود أقرب، فهناك الذين لديهم حنين وشجن لتلك الأيام المجيدة في ميدان التحرير وما حققه من سمعة عالمية، ومن إطاحة نظام تخشب في الحكم لفترة طويلة؛ وهناك من وجد أن ما جرى كان أسوأ ما حدث لمصر المعاصرة، وكان التمهيد لحكم الإخوان الفاشي، وأكثر من ذلك أن ما جرى لم يكن فقط ثورة على الإطلاق، بل إنه كان نتيجة «مؤامرة» جرى التحضير والتجهيز لها في عواصم أجنبية في «عملية يناير».
الشعب المصري، وبخاصة ذلك الذي تمثل في حزب «الكنبة» الذي راقب الأحداث في بدايتها، ثم عندما توسع فيها الخرق انحاز إلى القوات المسلحة ووجد لديها الخلاص من إشكاليات كبرى في التخلص أولاً من الإخوان، وثانياً الاندراج في برنامج إصلاحي يأخذ بيد البلاد من الهوة التي وقعت فيها بالجمود أو بالثورة أو بكليهما معاً.
ما يحدث في مصر في «ذكرى 25 يناير» ليس جديداً؛ فقد حدث تقريباً في كل الثورات التي عرفها العالم. ومن عاش في الولايات المتحدة سوف يجد أن الرابع من يوليو (تموز) في كل عام يحمل ذكرى الثورة الأميركية، حيث تخرج الأعلام وتمتلئ الحدائق والشوارع بالاحتفالات. لكن الدوائر الفكرية سوف تشهد انقسامات متعددة، بعضها يصل إلى التساؤل عما إذا كانت الثورة ضرورية، ومعها يجري تذكر هؤلاء الذين ذهبوا إلى كندا ولاءً للملك الإنجليزي، ومشاركتهم في الهجوم على أميركا في 1812 وحرق واشنطن ذاتها. وربما كان أكثر ما يجري تذكره هذه الأيام أن الثورة لم تحرر العبيد، بل تركت العبودية قائمة، وكيف لا وقادة الثوار مع حديثهم عن حقوق الإنسان الأساسية صكوا دستوراً يقنن للعبودية ويجعلها شرعية. الثورة الفرنسية لم ينته الانقسام حولها حتى الآن، وكانت نتيجة الانقسام الأول بعد 1815 عودة الملكية مرة أخرى لأسرة البوربون، ومن بعدها العودة لأسرة نابليون، وفي 1848 جرت ثورة أخرى لكي تقوم الجمهورية الأولى من ركامها، والآن فإن فرنسا تعيش في ظل الجمهورية الخامسة التي أقامها ديغول عام 1958. الثورة البلشفية الروسية انتهت بعد سبعين عاماً من قيام الاتحاد السوفياتي بثورة قسمت الاتحاد إلى 15 جمهورية، لكن قبل أن تتفتت روسيا هي الأخرى جرت الثورة على الثورة مرة أخرى، وجاء بوتين لكي يستعيد ما بدده يلتسين، وأصبحت الثورة البلشفية جزءاً من التاريخ، والأرجح أن لا أحد يريد تذكرها الآن. الصين خلقت طريقتها الخاصة للتعامل مع ثورتها الماوية، وعندما قمت بزيارتها لأول مرة عام 1998 بدعوة من صحيفة «الشعب» الصينية، طلب منا مضيفونا الذهاب إلى قبر ماو في ميدان السلام السماوي، وهناك أعطونا ورداً من البلاستيك بعد الوقوف في طابور طويل يصل إلى كيلومتر من طلبة المدارس، ودخلنا إلى قبر الزعيم الخالد لكي نشهد صورة أو تمثالاً أو جثة شمعية منه، وبعدها سلمنا الزهور مرة أخرى لكي يستخدمها آخرون. عندما سألنا الرفاق عن ماو وعهده، كانت الإجابة هي الصمت، لم يكن أحد متحمساً للذكرى ونحن نقف وسط هذا الميدان التاريخي.
في مصر ذاتها، فإن ثورة 23 يوليو 1952 لها هي أيضاً يوم للاحتفال كل عام، بينما يستعد الكثيرون للاحتفال بالمئوية الأولى لثورة 1919؛ وبهذه المناسبة فإن عدداً من المثقفين دعوا إلى استعادة بعض من رموزها. لم يتحدث أحد عن عودة الملكية، لكن الحديث جرى عن عودة علم مصر الأخضر بهلاله ونجومه الثلاث باعتباره مميزاً لمصر بدلاً من العلم الذي يختلط مع أعلام دول أخرى. والحقيقة أن العلم القديم لديه الصفة نفسها، فهو يماثل أعلام الجزائر وباكستان، والهلال موجود في أعلام دول مثل سنغافورة.
لكنها «ذكرى الثورة» وكما يقال فإنه ذكريات الثورات تأتي مع المناسبة، لكن الحقيقة هي أنها جزء من التاريخ الذي لا يمكن الاستغناء عن معرفته، فحقائق الحاضر كلها تدفع إلى المستقبل، الذي هو أيضاً زمن يحدث فيما سوف يأتي وليس ذلك الذي ولّى وراح. «ذكرى الثورة» تبدو بعيدة الآن بقدر سنوات ضوئية رغم أنها حدثت قبل ثماني سنوات فقط. عجبي!