إميل أمين
كاتب مصري
TT

عن فجر جديد للصناعة السعودية

تحتاج الأمم والشعوب في الأزمنة الفاصلة والأوقات «القيمة» رجالاً يقبضون على زمام الأحداث ويقودون دفة الأمة بعزم لا يلين وحزم لا يستكين، للعبور من حال إلى حال، ومن وضع إلى آخر، ولا سيما إن كانت الأهداف استراتيجية عالية الهمة وغالية القيمة.
تطورات المشهد الصناعي السعودي في الأيام القليلة الماضية تؤكد أن فجراً جديداً يشرق على المملكة العربية السعودية، من خلال برنامج تطوير الصناعة الوطنية الذي يرعاه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويهدف إلى تحفيز 12 قطاعاً في الاقتصاد السعودي، وفي المقدمة من تلك القطاعات الطاقة، والبتروكيماويات، والتعدين، وصناعة السيارات.
تبقى الصناعة في المبتدأ. والخبر الباب الواسع لنهضة الدول الكبرى. وهي تضع المبدعين فيها على سلم القوى الكبرى الفاعلة والناجزة حول العالم، وما المكانة التي تحوذها الولايات المتحدة الأميركية حول العالم إلا ارتداد لقوة صناعتها، ما عزز - ولا يزال - نفوذها المادي والمعنوي حول العالم.
لعبت الصناعة دوراً فاعلاً في إحياء الأمم بعد موات، لأسباب مختلفة، وفي مقدمها الحرب وما خلفته من دمار، ولنا في اليابان وألمانيا مثالان يدللان على ما تفعله الرؤى الصناعية المتميزة والابتكارية حول العالم، فقد عادت ألمانيا لتشرق شمس اقتصادها الباهرة أممياً رغم ما تعرضت له من دمار ومرار خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، أما اليابان فإن ثورتها الصناعية في واقع الحال مزدوجة، ذلك لأنها مرة استطاعت النهوض من تحت الركام، وفي الثانية تغلبت على عدم توافر الموارد الطبيعية والمواد الخام اللازمة لنهضة صناعية.
تمضي المملكة اليوم في طريق نهضة صناعية، هي باب واسع إن شئنا الدقة لاستجلاب الاستثمارات من شمال المسكونة وجنوبها، شرقها وغربها، ولهذا فإن التحدي الخاص باستقطاب نحو نصف تريليون دولار إلى السوق المحلية الداخلية، أمر لا يقدر عليه سوى أصحاب الرؤى الاقتصادية العملاقة، و«رؤية 2030» من دون مغالاة هي درب يؤدي بالضرورة إلى تحقيق تلك الأحلام، وجعلها حقائق حية على الأرض في الحال والاستقبال.
الناظر إلى المملكة اليوم يدرك بالفعل أن فجراً اقتصادياً جديداً ينبلج، تزخمه وتدعمه خطط لوجستية لا تقوم الصناعة من دونها، بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية، والموانئ والمطارات، والمناطق الاقتصادية الحرة، وشبكات الاتصال الذكية.
غني عن القول إن ربط تلك القطاعات بعضها ببعض في الداخل، وكذا مع الخارج، أمر يعني وضع الاقتصاد السعودي على خريطة الاقتصادات العالمية التي يشار لها بالبنان، في عالم تتغير محاوره الجيوبوليتيكية، وتتبدل تقاطعات مصالحه الجيواستراتيجية بشكل سريع في العقود المقبلة، ولا مكان فيه إلا لجماعة اقتصاد الإبداع والابتكار، ذاك الذي يتجاوز الأفكار المعلبة والقوالب النمطية والكلاسيكية.
ما يجري في المملكة العربية السعودية اليوم هو ثورة صناعية حقيقية تقفز على الصورة النمطية لاقتصاد الريع النفطي، وفتح لمسارب الأمل للأجيال الشابة، عبر توفير عشرات الآلاف من الفرص الوظيفية من جهة، ومن جهة ثانية يُولد التواصل والاحتكاك مع عقول مبدعة من جهات العالم الأربع خبرات وتجارب تعد «قيماً مضافة» بحسب علم الاقتصاد، ما يعني أن الاستثمار يمضي في مسارين في الحجر، من أجل خدمة البشر، تالياً.
فجر الصناعة السعودية الجديدة ضرب من ضروب النهضة الحضارية التي تتولد وتُخلق بأيدي أبناء الأمة، والحضارة تقليدياً لا تقوم بالاستعارة، بل بالاعتماد على المعين الإنساني والإيماني بداية، ومن ثم إعمال العقل في النقل، وتالياً ترجمة هذا وذاك على أرض الواقع بأسلوب عصراني يقبل الانفتاح على الآخر، والتعاطي معه دون خجل أو دجل، بما يسهم في إثراء حاضر ومستقبل الأمة.
أفضل الحديث الذي استمعنا إليه خلال الحفل الذي حضره سمو ولي العهد، كان حديث وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية السعودي خالد الفالح، الذي أشار إلى عنصرين أساسيين سيكونان ركيزي تلك النهضة الصناعية؛ الابتكار، والبحث العلمي.
وفي الحق هما الجناحان اللذان يمكن للأجيال السعودية المقبلة أن تحلق بهما في سموات الدول صاحبة التجارب الرائدة، ولا سيما أنه لدينا أيضاً نماذج لقطاعات بشرية آسيوية، تحديداً اعتمدت هذين المسارين، كانت إلى عقود قريبة تعاني من شظف العيش، غير أنه من خلال رؤية واعية استطاعت الانتقال إلى مصاف النمور الآسيوية، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى السيرة الذاتية لـ«لي كوان يون»، وما فعله في سنغافورة، التي نقلها من قطاع جغرافي مليء بالمستنقعات وبشر من أعراق وإثنيات ومذاهب مختلفة تكاد تتصارع، إلى دولة نموذجية واقتصاد يشار له بالبنان.
ما تمتلكه المملكة من ثروات طبيعية غالبه لم يكتشف بعد، فيما الثروة الحقيقية تبقى في عقول قادتها الجدد ومن يحملون مشاعل التنوير في دروبها، وما يجري على الأرض في مشروع نيوم بنوع خاص؛ حيث تتلاقح وتتنافح آراء وخبرات وتجارب فريق دولي يضم أكثر من 30 جنسية، يثبت أن مرحلة حضارية جديدة من التنمية المستقرة والمستمرة تنشأ على أراضي المملكة، وتخدم بقية الإقليم والدول الشقيقة المجاورة.
تاريخ الصناعة كما يقال هو كتاب مفتوح لقدرات الإنسان، وها هي لحظة الانطلاقة الجديدة للإنسان السعودي تولد وتتعاطى مع القدر.