سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

صيف سياسي يتحسس خطواته في تونس والجزائر!

رغم أن المنطقة تخوض في عز البرد منذ أسابيع، فإن سخونة الطقس السياسي حلت مبكراً في سماء تونس والجزائر معاً، ثم بدت هذا الأسبوع وهي تتمدد في البلدين خلال نهار واحد، وكأنها عدوى تنتقل وتعبر الآفاق، فلا تكاد تُقر بالحدود، ولا حتى تعترف بها!
ففي لحظة مباغتة من صباح الأحد، دعا يوسف الشاهد، رئيس وزراء تونس، إلى مؤتمر في مدينة المنستير، مسقط رأس الحبيب بورقيبة، ليعلن من فوق منصته تأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم: تحيا تونس. وليس من الممكن الفصل بين اختيار التوقيت، واختيار المكان، وبين انتخابات رئاسية سوف تجري في البلاد في نوفمبر (تشرين الثاني) من هذا العام، ولا يمكن كذلك الفصل بين إقدام الشاهد بالذات على مثل هذه الخطوة، وبين طموح رئاسي مشروع لديه، يبدو واضحاً في خطوات كثيرة قطعها قبل الإقدام على خطوة المؤتمر!
فإذا عبرنا من حدود تونس في اتجاه الغرب، وجدنا أنفسنا في القلب من أجواء جزائرية سياسية أشد سخونة؛ لأن الشاهد إذا كان قد فضّل ألا يربط بين مؤتمره، وحزبه، وخطوته، وبين السباق الرئاسي بشكل مباشر، ربما لأن السباق أمامه لا يزال بعيداً نسبياً، فالسباق المماثل في الجزائر في مرمى البصر؛ لأن بينه وبين الأشقاء في الجزائر رمية حجر؛ ولذلك بدت الأجواء هناك مختلفة، كما أن درجة الحرارة فيها راحت تعلو وتتصاعد بوتيرة أعلى؛ لأن السباق سوف ينطلق في الثامن عشر من أبريل (نيسان)، ولأن المسافة من هنا إلى هناك، بين المرشح ومعه الناخب وبين الموعد، هي ثلاثة أشهر بالكاد!
ورغم أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، هو الذي دعا إلى الانتخابات، وهو الذي بادر فحدد موعدها، وهو الذي افتتح موسمها، فإنه لا يزال يلتزم الصمت فيما إذا كان سيخوض السباق نحو ولاية خامسة، أم أنه سيكتفي بولايات أربع؟!
ويبدو أن صمته قد أغرى طامحين في الكرسي الرئاسي، فراحوا يتزاحمون ويتسابقون على أولوية الإعلان عن إطلاق إشارة البدء، ولم يشأ حزب حركة مجتمع السلم أن يجعل الفرصة تفوت، فدعا مجلس الشورى داخله إلى اجتماع على وجه السرعة، وما كاد الاجتماع يلتئم حتى كانت غالبيته تؤيد دخول المعترك، وحتى كانت تسمي رئيس الحزب عبد الرزاق مقري مرشحاً ينافس على عتبة القصر!
أما حزب مقري فهو أكبر حزب إسلامي في البلد، وأما وجوده الحالي في المشهد السياسي فمن خلال البرلمان القائم، ونصيبه في المجلس التشريعي يصل إلى 33 نائباً من أصل 462، والسؤال يظل عما إذا كانت نسبة تمثيل برلماني في هذه الحدود الضيقة، تؤهل كيانها الحزبي للمنافسة على أعلى موقع رسمي، أم أن الحزب يريد من وراء طرح اسم رئيسه في البورصة الرئاسية، مجرد كسر إطار الصورة القاتمة التي أحاطت بالإسلاميين في الجزائر مرة، وفي المنطقة مرة أخرى، بامتداد سنوات مضت؟!
فلا تزال عشرية التسعينات في الجزائر ماثلة في الأذهان، وليس من السهل محوها من الوجدان العام المحفورة فيه، ولا من السهل نسيانها، ففي عام 1991 كان التيار الإسلامي قد فاز بغالبية مقاعد البرلمان، وكان الجيش قد تدخل فألغى النتيجة، وكانت مواجهة قد نشأت بين الدولة وبين المتطرفين سنوات بعدها إلى نهاية عقد التسعينات، وكان ضحايا كثيرون قد تساقطوا في أثناء المواجهة، وكانت تقديرات قد وصلت بالعدد النهائي للضحايا إلى ما يقرب من مائة ألف، وكانت الطريق إلى الاستقرار الذي عرفته البلاد فيما بعد تلك العشرية الدامية، مفروشة بالكثير من المعاناة والألم!
والشيء المؤكد أن حزب حركة مجتمع السلم قد خرج من رحم المواجهة الشهيرة، باعتباره حزباً ذا مرجعية إسلامية على الأقل، والمؤكد أيضاً أنه قرر منذ بدايته أن يعي درس المواجهة الموجعة، وقد كان اسمه الذي يحمله بين باقي الأحزاب من بين العلامات الدالة على وجود هذا الوعي بدرجة من الدرجات. فالحزب الذي يقرر أن تمثل كلمة «السلم» مساحة من رايته المرفوعة في الحياة السياسية، لا بد أن يكون قد قصدها، ولا بد أنه لم يجعلها في اسمه اعتباطاً، ولا عبثاً، ولا بغير هدف أراده أن يتحقق!
لكن المفهوم أن استيعاب الدرس في حالة كهذه، والوعي به، ليس مجرد اسم للحزب، ولا مجرد كلمة في اسم الحزب؛ فالوعي بدرس العشرية المُخضبة بالدم، لا يمكن أن يتجسد إلا في خطاب يحتاج الناخب الجزائري إلى أن يسمعه من السيد مقري، إذا ما جاء ليقدم نفسه، ويقدم حزبه، ويقدم برنامجه الانتخابي، في كل لقاء سوف يجمعه مع ناخبيه، الذين راهن عليهم في الطريق إلى مؤتمره الصحافي الأول!
لقد وعد بتحقيق «فوز عريض» في الانتخابات، وقال ما معناه إن الكرسي الرئاسي يبدو في متناول يده، وأن ذلك مرهون فقط بأن تقرر الحكومة احترام إرادة الناخبين!
وهذه درجة من الثقة من جانبه تظل في حاجة إلى خطاب انتخابي مساند، وفي حاجة إلى لغة مع الناس تقول: إن المواجهة مع الشارع بالقوة، ليست من بين مفردات قاموس الحزب، وأن مسمى «مجتمع السلم» ينام على مضمون يعكس المعنى في المسمى ويترجمه، وأن العشرية صارت من الماضي، وأن درسها حاضر في عقل الحزب وفي يقينه، وأنها كانت جملة اعتراضية في تاريخ الجزائر وفي مسيرتها، وأنها كانت عشرية عابرة، وأنها كانت طريقاً إلى قناعات عامة راسخة تشكلت بعدها واستقرت!
وهذا ما سوف يقوله خطاب الحزب من هنا إلى أن يحل الثامن عشر من أبريل، إذا دام وجوده في السباق، وإذا قرر أن يأخذ المعركة التي اختار طريقها بالجدية الواجبة، وإذا ما أدرك مُسبقاً أن بلداً في حجم الجزائر لا تحتمل المعركة الرئاسية فيه إلا الجدية الواجبة!
وفي اليوم ذاته الذي أعلن فيه الشاهد عن حزبه الجديد، خرج اللواء متقاعد علي غديري ليعلن في الجزائر دخوله إلى السباق الرئاسي، وقد رفع ذلك من سخونة طقس السياسة درجات مُضافة؛ فاللواء غديري لم يدخل وفقط، ولا وعد بالفوز، وحسب، ولا اخترق الميدان على سبيل التجربة، ثم اكتفى باختراقه، لكنه ملأ خطاب البداية بكلمات تتحدى منذ اللحظة الأولى، وتنذر، وتستعرض العضلات، فقال: إما أنا، وإما نظام بوتفليقة الحاكم!
لكن الشيء الذي يبعث على الارتياح في خطابه، الذي بدا لافتاً في عباراته القوية، أنه استند في استعراض مكامن قوته إلى إرادة الناخب بالأساس، فلم يذهب إلى أبعد من اعتقاده في قدرته كمرشح، على استدراج كل ناخب عبر برنامج انتخابي يخاطب حاجته وعقله على السواء!
وربما كان هذا هو السبب الذي جعله يدعو الرئيس بوتفليقة إلى نوع من المنازلة فيقول: الرئيس بوتفليقة لا يزال رئيساً حتى اللحظة، وإذا قرر الترشح فليساعده الله في ذلك، هو مواطن، وسأواجهه بهذه الصفة!
معركة الرئاسة في الجزائر ستدور في الربيع، ومعركة رئاسة تونس ستدور في الخريف، لكنهما تستدعيان الصيف في غير موعده في البلدين، وتدفعان في كل صباح برياح تتحسس خطواتها في كل الاتجاهات، والرهان فيهما هو على وعي المواطن بالذات!