هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

تركيا لا تريد لأكراد سوريا ما حصل عليه أكراد العراق!

يوم الأربعاء قبل الماضي كان رجب طيب إردوغان في موسكو للتنسيق مع فلاديمير بوتين حول منطقة أمنية عسكرية تسيطر عليها تركيا في سوريا. هناك قال، إن الولايات المتحدة الأميركية عبّرت عن موقف إيجابي، ولا يعتقد أن هناك مشكلة مع روسيا في هذا الشأن.
ما يقترحه إردوغان هو منطقة بطول 250 كلم وعرض 32 كلم في شمال شرقي سوريا، والهدف - حسب إردوغان - حماية الحدود التركية من «وحدات حماية الشعب»، أي المقاتلين الأكراد السوريين الذين يشكلون الجزء الأكبر من القوات السورية الديمقراطية (قسد) المتعددة الأعراق التي هزمت «داعش»، بمساعدة الولايات المتحدة.
من ناحيتهم، أكد المسؤولون الأكراد السوريون دعمهم إنشاء منطقة عازلة إذا أدارتها الأمم المتحدة أو التحالف الذي تقوده أميركا.
ليست هناك معلومات كافية، إذا ما أقيمت المنطقة العازلة، عن كيفية منع الولايات المتحدة تركيا من مهاجمة وتدمير «قسد». وهذا هو لب الموضوع؛ لأن تركيا ترى في المنطقة العازلة، أن يسيطر الجيش التركي على المراكز السكانية الكردية الرئيسية في شمال شرقي سوريا. إن أغلبية قوات «قسد» تأتي من هذه المناطق، وهي مستعدة أن تحارب الأتراك ولا تتفكك. ثم إنها تدرك أن تركيا تهدد الوجود الحياتي للأكراد.
لذلك؛ من الصعب إقامة منطقة عازلة كما تتصورها تركيا في شمال شرقي سوريا؛ لأنه يجب إقناع روسيا، وإيران، والولايات المتحدة والكثير من أعضاء المجتمع الدولي بذلك، خصوصاً أنه ليس لدى تركيا الوسائل لإقناع «قسد» بالانسحاب سلمياً من هذه المناطق؛ إنها مناطقهم. تهدد تركيا بأنها ستلجأ إلى القوة العسكرية ربما كي تضغط على الولايات المتحدة لحملها على إجبار «وحدات حماية الشعب» الكردية بالموافقة. لكن - كما يقول أحد الخبراء القانونيين - إذا كانت هذه المنطقة ستنشأ فيجب أن تتمتع بالشرعية الدولية، وبالتالي أن يصدر قرار من مجلس الأمن بذلك، ويعني هذا أنه يجب إقناع الدول الأعضاء في مجلس الأمن بذلك، أي أميركا، وروسيا، وفرنسا والمملكة المتحدة.
هناك هدفان من إصرار تركيا على إقامة منطقة عازلة داخل سوريا من دون تدخل مجلس الأمن:
أولاً ـ هي تخشى من إنشاء منطقة مشابهة لتلك التي برزت بعد حرب الخليج عام 1991، التي أدت إلى حصول أكراد العراق على الحكم الذاتي. تعتبر تركيا هذا بمثابة كابوس؛ لأنها تعارض بشدة ظهور أي نوع من الكيانات الكردية شمال سوريا.
ثانياً ـ يرى الرئيس التركي أن المنطقة التي يدعو إلى اقامتها، لا توفر الأمن فقط إنما هي فرصة لتخفيف عبء اللاجئين السوريين في تركيا مع الصعوبات الاقتصادية المتزايدة.
صار معروفاً أن هناك قدراً كبيراً من السخط في تركيا حول السوريين، وينظر فقراء «حزب العدالة والتنمية» الحاكم إلى اللاجئين السوريين كمنافسين في الحصول على الدعم المحدود، وهذه مشكلة كبيرة لإردوغان.
إن تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا يفاقم استياء الأتراك من السوريين، خصوصاً أن الكثير من رجال الاقتصاد يتوقعون أن تدخل تركيا في الركود هذا العام، وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن نفوذ «حزب العدالة والتنمية» بقيادة إردوغان يتآكل بسرعة أمام منافسيه قبيل الانتخابات المحلية المهمة في شهر مارس (آذار) المقبل.
وفي محاولة منه لتحريك الاقتصاد كشف إردوغان هذا الشهر عن خطط لمشروعات إسكان كبرى للسوريين العائدين إلى المنطقة العازلة التي اقترحها في سوريا. وقال إن المنطقة العازلة ستعيق الهجرة تماماً. هناك من يعتقد في تركيا بأن الاتحاد الأوروبي سيمول مشروعات البناء؛ لأن أميركا لن تساهم في إعادة بناء سوريا طالما ظل بشار الأسد رئيساً.
كانت صناعة البناء في تركيا من أكثر القطاعات تضرراً من جراء التباطؤ الاقتصادي إلى درجة وصلت إلى حالة من الجمود التام. إنها تمثل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي من حيث العمالة، وتنشيطها ضروري جداً، كما أنها واحدة من أعمدة النمو الاقتصادي، ويعرف الاقتصاديون أن قطاع الإنشاءات في تركيا قد يبقى في حالة ركود طوال عقد من الزمن بسبب الديون الثقيلة التي تورط فيها القطاع مع وجود الكثير من إنشاءاته غير المبيعة؛ لذلك تعتقد أنقرة أن المشروعات في سوريا قد تكون قادرة على تعزيز صناعة البناء في تركيا المهددة. ويقول أحد الصناعيين الأتراك: لا شك أنه يجب إعادة إعمار سوريا، وستكون المساهمة التركية هائلة.
يتذكر أن الوضع كان كذلك في السابق حتى عام 2010، عندما كانت تركيا تبني الفنادق في سوريا، وتشق الشوارع، وتنشئ محطات للقطار، «لماذا لا نبدأ من جديد؟» ثم يقترح مصالحة مع سوريا من الناحية الاقتصادية، «فهذه ستكون مثالية لتركيا».
لكن، أي مشروعات إعادة إعمار كبرى تتطلب عودة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق؛ وهذا ما يرفضه حتى الآن إردوغان بانتظار أن يتنازل الأسد عن السلطة.
يحق لتركيا أن تخطط ويحق للأطراف الأخرى أن تواجه هذه الخطط. ومن المرجح أن ترفض أوروبا تقديم الدعم المالي الكبير لمشروعات إردوغان في المنطقة العازلة من دون تدخل سوري، وقبل أن تحصل على مصادقة دولية من الأمم المتحدة.
من ناحية الواقع، قد لا تكون المشروعات التركية في سوريا كافية لدعم قطاع البناء التركي. وكما يقول عارفون، إنه من الممكن لـ«شركة التشييد التركية» بناء المدن، لكن تركيا يتم فيها بيع 600 ألف وحدة جديدة سنوياً، وفي سوريا ستحصل على عُشر ذلك في سنة. ثم من يرغب من اللاجئين السوريين في مغادرة مدينة مثل إسطنبول والعودة إلى دولة مدمرة مثل سوريا؟
في المقابل، سوف تستغل «وحدات حماية الشعب» المنافسة بين أميركا وروسيا لمنع إقامة منطقة آمنة تركية، وفي حال اتفقت تركيا وروسيا، هناك النظام السوري، والتوجه الكردي إليه يسبب حالة إزعاج لتركيا.
ما يربط تركيا وروسيا وإيران هو معارضتهم الوجود العسكري الأميركي في سوريا. فكل طرف يرى فيه عقبة أمام نفوذه.
في موسكو أكد بوتين على استعداد روسيا لاحترام مصالح تركيا في سوريا، لكنه شجع إردوغان على بدء الحديث مع الحكومة السورية للمساعدة في استقرار المناطق الحدودية. روسيا تريد أن يتمدد الجيش السوري النظامي ويغطي كل الأراضي السورية؛ ولذلك تبدو متحمسة لرعاية محادثات دمشق مع الأكراد على أمل أن تمدد مكاسب الحكومة السورية وتزيد هي من قبضتها على البلاد.
من هنا، فمن المؤكد أن موسكو تستطيع أن تقوّض ليس فقط إنشاء المنطقة الآمنة، بل منع أو عرقلة الخطوات التي تتخذها تركيا، أو الحكومة السورية وأي لاعب آخر في تلك الساحة.
بعد كل هذا، هل يمكن اعتبار إردوغان رجل دولة صاحب استراتيجية صائبة؟