إميل أمين
كاتب مصري
TT

«كايسيد» وأسبوع الوئام بين الأديان

لا يزال مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، يلعب دوراً متقدماً في وصل الجسور بين الأمم والشعوب والقبائل، وذلك من خلال إيمان راسخ لقيادة المملكة، وتشجيع وزخم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي أشار إلى اهتمام المملكة ببناء حضارة إنسانية واحدة، عطفاً على توجهات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الخاصة بالانفتاح الخلاق على سائر العالم والثقافات والتلاقي الأصيل مع أتباع الأديان في عودة لصحيح الإسلام الذي عرفته المملكة قبل سنوات المعاناة مع التشدد.
عمل مركز الملك عبد الله طوال الأعوام الخمسة المنصرمة انطلاقاً من قواعد وركائز أدبية وإيمانية، في المقدمة منها أن للحوار آداباً وأساليب ليس من ضمنها الانفعال والإدانة المسبقة أو اللاحقة، كما أن للحوار غاية حقيقية، لذلك فإنه ليس استهلاكاً للمجاملات والطاقات، بل هو تواصل إنساني من أجل بناء إنساني حقيقي ممتد بين أطراف عديدة، يهدف إلى خلق جو صحي ومريح من العلاقات الإنسانية الإيجابية، كما أن غاية الحوار هي النقاش وليس إلغاء الاختلافات الفكرية والعلمية، بل إن غايته إزالة الشحناء والبغضاء، فإن من يحاور الآخر أو ذاته، فإنه يطمح إلى فهم ذاته والآخر في آن معاً.
في هذا الإطار الذهني تنطلق، اليوم (الثلاثاء)، في مقر المركز في العاصمة النمساوية فيينا أعمال أسبوع الوئام بين الأديان، والتي يشرف عليها رجالات المركز ومجلس إدارته، والمنتدى الاستشاري، وتشارك فيه شخصيات بارزة من السلك الدبلوماسي الدولي وأعضاء المجتمع المدني، عطفاً على عدد من القيادات الدينية من العراق وسوريا والنمسا.
ماذا عن فكرة أسبوع الوئام بين الأديان بدايةً؟
المعروف أنها مبادرة عربية الأصل، طرحها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين، من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر (أيلول) 2010، وفي 20 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه أقرت الجمعية العامة فكرة هذا الأسبوع، وأشارت في قرارها إلى أن التفاهم المتبادل والحوار بين الأديان يشكلان بعدين مهمين من الثقافة العالمية للسلام والوئام بين الأديان، ما يجعل الأسبوع العالمي وسيلة لتعزيز المودّات ووصل المحبات بين جميع الناس بغض النظر عن ديانتهم.
والشاهد أنه اعترافاً من مركز الملك عبد الله بالحاجة الملحّة إلى الحوار بين مختلف أتباع الأديان، ولتعزيز التفاهم المتبادل والانسجام والتعاون بين الناس، دعا «كايسيد» إلى تشجيع جميع الدول لدعم هذا الأسبوع لنشر رسالة التعايش المشترك، من خلال كنائس ومساجد ومعابد العالم، على أساس طوعي، ووفقاً للقناعات والتقاليد الدينية الخاصة بهم.
يؤكد السيد فيصل بن معمر الأمين العام لمركز الملك عبد الله، أن هدف الفعالية هو إعادة التذكير بالوصيتين الأساسيتين المشتركتين، اللتين على أعمدتهما تقوم فكرة هذا الأسبوع، وهما «حب الله» و«حب الجار»، من دون أي مساس أو انتقاص بأيٍّ من المعتقدات الدينية الخاصة به، ويشير إلى أنه من البدهيات وجود هاتين الوصيتين في صميم الأديان السماوية الثلاثة، لتوفر بذلك أصلب أرضية دينية.
يؤمن القائمون على مركز الملك عبد الله بأن المسألة الحوارية هي ركن أساسي من أركان الإصلاح الفكري، ونبذ التطرف والتعصب، ومنها تنتج مساحات حرة من الأفكار التي تخلق حالة متطورة من التعددية، والتنوع بين أفراد المجتمع، ويتم استخدام هذه المساحة من أجل إثراء جوانب الحياة الحرة، لا من أجل إدخال المجتمع في جدليات تعطّل الحياة وتثير الأحقاد بين الناس.
هنا فإن «كايسيد» يرى أن هذا الأسبوع يوفر منصة طيبة لجميع الجماعات الدينية، والمجموعات الأهلية الأخرى التي تعمل من أجل ما يُعرف أدبياً بـ«الخير العام»، لإظهار الوئام الإنساني المفتقَد حول الكرة الأرضية، وبخاصة في ظل صعود الشعبويات والانقسام السياسي الكبير، بين دعاة العولمة، وأصحاب رايات القومية، وفيما بينهما يخفت صوت الإيمان الواعي بذاته، العاقل بنفسه، الناطق بكلمته، من على وجه البسيطة.
فعاليات «كايسيد» لأسبوع الوئام العالمي هذه السنة تحفل بتجارب بشرية حية لا سيما من أماكن مجروحة إنسانياً قبل العراق وسوريا بنوع خاص، حيث الإرهاب، طاعون القرن، ضرب لعدة سنوات، لكن لا تزال هناك رُكَبٌ لم تجثُ لبعل الكراهية، سوف يعلو صوتها لتقديم خلاصة حياة معيشة، ورفاق درب من الألم، انتهى مؤخراً بعبور الشدائد معاً.
إضافة إلى ذلك فإن فعاليات «كايسيد» تفتح المجال للاستماع لرؤى زعماء دينيين من جميع أنحاء العالم، ومشاركة مسؤولين ومثقفين من جمهورية النمسا بنوع خاص وأوروبا بنوع عام، لتعميق التبادل الحضاري والروحي معاً.
يأتي أسبوع الوئام والعالم العربي لا يزال في أثر الزخم الذي جرت به المقادير بعد زيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات العربية المتحدة، والتي أظهرت جلياً للعالم برمّته أن البدء في الحوار الناجح ينطلق من ترسيخ نقطة ارتكاز مقبولة لدى كل الأطراف، ولا ريب أن أفضل نقطة ارتكاز هي أن الإنسان مرهون بفعل الخير، ونشر المحبة بين الخلق كلهم، وبين الخلق والكون بأسره.
أضحى منظور الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في حاضرات أيامنا حقيقة وركيزة جوهرية في التقريب الروحي بين الشعوب وقادتها، والتاريخ سوف يذكر أولئك الذين عملوا جاهدين لتجميع أبنائه، لا سيما أن أفضل عيال الله هم أنفعهم لعياله. هذا المنظور منوط به ومطلوب منه خطوات مستقبلية عدة، من أجل أن تتساوق الأقوال والأفعال معاً، ومن أجل مجابهة العلمانية الجافة، والأصولية المتطرفة.
أسبوع الوئام بين أتباع الأديان هو أسبوع سردية القلب المنفتح، حيث الشموع والصلوات والتحيات، والإله الذي نعبده جميعاً، سيما أن قارب البشرية يكاد يغرق من آثام الآثمين وجهالات الجاهلين.