بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

شكراً أبوظبي

بعد نصف قرن، أو قل أكثر، وربما أقل، عندما يعود المؤرخون في الزمن المقبل لما مضى من أزمان، ومعهم الباحثون في شأن مد جسور التفاهم الإسلامي - المسيحي، إلى محطات تاريخية أسهمت في تعزيز حوار التقارب بين أتباع الديانتين، الأرجح، بل إن منطق البحث الأكاديمي يقول، إنهم سوف يتوقفون ملياً أمام زيارة سيد الفاتيكان، كبير الكاثوليك في العالم، البابا فرنسيس، للإمارات العربية المتحدة، كونها بالفعل الحدث الأبرز في مسلسل لقاءات إسلامية – مسيحية ذات مستوى متميز، جرت خلال السنوات الخمس الأخيرة في غير عاصمة عربية. مطلوب، بل من المهم جِداً أن يُقال «شكراً أبوظبي»، لإقدامها على فتح باب عاصمة على أرض الجزيرة العربية لاستقبال البابا فرنسيس، في أول زيارة من نوعها للمنطقة، إنما يظل الأهم من مجرد الشكر أن تدخل الزيارة ضمن سياق عمل إسلامي دؤوب يهدف إلى إغلاق كل الأبواب أمام أي زعم متطرف يريد نسف جسور التواصل بين أكبر رسالتين سماويتين في العالم.
مجيء البابا فرنسيس إلى أبوظبي تم بعد أكثر من لقاء مهم جمع قيادات مسيحية مع مسؤولين كبار في العالم الإسلامي، خلال العامين الماضيين. يبرز في هذا السياق استقبال خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، خلال زيارته مصر (2016) البابا تواضروس الثاني. كان ذلك أول لقاء يجمع بين عاهل سعودي وبابا الكنيسة القبطية. تبع ذلك لقاء بين ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، والبابا تواضروس، في القاهرة أيضاً، العام الماضي. بين اللقاءين، زار الرياض البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وتلك كانت أول زيارة على ذلك المستوى. أهمية هذه اللقاءات أنها أغلقت الأبواب أمام أي مزايدات من جانب أطراف، في العالم الإسلامي قبل غيره، لا تتردد في توظيف الدين لخدمة أغراضها السياسية. وفي السياق ذاته، فإن لقاءات على ذلك المستوى، يسّرت الطريق أمام نجاح زيارة البابا فرنسيس لعاصمة الإمارات العربية المتحدة.
لماذا تنزعج أطراف داخل العالم الإسلامي تحديداً، من أي تقارب إسلامي - مسيحي، خصوصاً عندما يجري عبر قنوات بهذا المستوى المتقدم، والمتمكن من إحداث تغيير مهم في مفاهيم جرى الترويج لها خطأ خلال حقب محددة؟ السبب بسيط، والأرجح أنه في غاية الوضوح لكل ذوي العقول المُبصرة، وخلاصته أن منهج تلك الأطراف يقوم أساساً على تطرف يستبعد إمكانية التسامح مع غير المسلم، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فيُكفِّر مبدأ التعايش مع أتباع المسيحية واليهودية، وكأن تُبّع ذلك النهج لم يقرأوا: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالتي هِي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» 46 - العنكبوت.
إنما، بقدر ما أوقع ذلك التفكير المتنطع، القائم على تكفير كل مختلف مع التابعين له، من أذى بالدين الحنيف ذاته، وبالمسلمين، وغيرهم، حتى إن توحش تنظيم داعش، وما سبقه، كاد ينجح في تطفيش معظم المسيحيين العرب من بلادهم، قدر ما هو مريح أن أنصار ذلك التيار باتوا أقلية، ثم إن النهج ذاته في تراجع وما عاد من السهل الترويج له، أو إيقاع الشبان، تحديداً، في شِراك الانضمام لمن يدعو إليه. من هنا أهمية مواصلة طريق الانفتاح الإسلامي - المسيحي، بالبناء على ما تحقق من نتائج خلال زيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات، وما أجرى خلالها من لقاءات مع الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، ثم مع الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر. لقد قيل، منذ زمن بعيد، ما مضمونه أن وضع حجر الأساس هو الجزء الأسهل من بناء أي بنيان، أما التحدي الأصعب فهو أن يتواصل البناء وفق مبدأ يعرف القائمون عليه ماذا يريدون على وجه التحديد، وما هي خطة الطريق التي يمشون عليها، وصولاً إلى تحقيق الهدف المنشود.
يبقى القول إن تطهير الإسلام مِن تلويث مَن اختطفوه فشوّهوا تسامحه، هو أحد أهم ما يمكن للزيارة البابوية أن تسهم في تأكيده. هذا في حد ذاته، وما يضاف إليه من ثمار الحوارات التي جرت، يكفي للقول: «شكراً أبوظبي»، حقاً لقد أحسنتِ صنعاً.