فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

زيارة البابا من «دستور المدينة» إلى «وثيقة الأخوة»

لم يعرف التاريخ مثيلاً لبشاعة الحروب بين المسلمين والمسيحيين، معارك طاحنة أساسها سياسي وغلافها ديني، بلغت الذروة في فترة حروب العصور الوسطى في القرن الحادي عشر، التي تعرف بـ«الحروب الصليبية». وبين هذه المعارك ومعها طحنت الأمم تلك النزاعات الأهلية بين الطوائف والمذاهب. سالت الدماء عبثاً من دون أي مبرر أو هدف أو مغزى، لم تكن إلا حرب الجميع ضد الجميع وبوحشية كارثية، ولم تقف هذه الحروب إلا بعد جهود مضنية من العقلاء، وهم في كل زمانٍ قلة، حيث باشروا الكتابة والتنظير لحدود تدخلات الفرد مع غيره، ومع المجتمع، ومع الدولة، وتبلورت منذ توماس هوبز وحتى جون راولز نظرية العقد الاجتماعي، وهي بالطبع في طور تكميلٍ أبدي، إذ لا يمكنها أن تكتمل، إذ تتطور مع المجتمعات والشعوب.
كانت زيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة حديث العالم. زيارة بمثابة حدث تاريخي غير مسبوق في تاريخ الخليج. والمبادرة تعبر عن عمق الاقتناع السياسي بضرورة رسم مسارات التسامح بين المجتمعات والأديان. والدولة تعي ضرورة إنهاء الصراع بين الدينين، وبخاصة المسيحي والإسلامي، الكل أجرم بالكل، وذروة الحروب بين الدينين كان في البلقان منذ 1992 وحتى 1995 وهو عدوان صارخ من عمق التطرف المسيحي، ومع ذلك أصر المسلمون على عدم التعميم ضد دين بأكمله، وكذلك فعل عقلاء المسيحيين مع ظهور تنظيمات «القاعدة» و«داعش» و«بوكو حرام» و«الحشد الشعبي» وسواها.
توج اللقاء بإعلان البابا وشيخ الأزهر توقيع «وثيقة الأخوة الإنسانية»، وإطلاق جائزة «الأخوة الإنسانية» وتشييد كنيسة باسم البابا ومسجد باسم شيخ الأزهر.
نصت الوثيقة على أمور كثيرة منها: «القناعة الراسخة بأنَّ التعاليمَ الصحيحة للأديانِ تَدعُو إلى التمسُّك بقِيَمِ السلام وإعلاءِ قِيَمِ التعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّة الإنسانيَّة والعَيْشِ المشترَكِ»... إضافة إلى أنَّ «الحريَّة حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ، اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارَسة»، ناهيك عن أنَّ «العدلَ القائمَ على الرحمة هو السبيلُ الواجب اتِّباعُه للوُصولِ إلى حياة كريمة، وأن الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافة التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والتعايُشِ بين الناسِ، من شأنِه أن يُسهِمَ في احتواءِ كثيرٍ من المشكلاتِ الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة التي تُحاصِرُ جُزءاً كبيراً من البَشَرِ، شدّدت على أنّ الإرهاب البَغِيضَ الذي يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغرب، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأِ، ليس نِتاجاً للدِّين - حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه - بل هو نتيجة لتَراكُمات الفُهُومِ الخاطئة لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ والتعالِي؛ لذا يجب وَقْفُ دَعْمِ الحَرَكاتِ الإرهابيَّة بالمالِ أو بالسلاحِ أو التخطيطِ أو التبريرِ، أو بتوفيرِ الغِطاءِ الإعلامي لها، واعتبارُ ذلك من الجَرائِمِ الدوليَّة التي تُهدِّدُ الأَمْنَ والسِّلْمَ العالميين، ويجب إدانة ذلك التطرُّفِ بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه».
بالطبع ليست هذه هي النهاية وإنما شرارة البداية، فالمجانين في كل الأديان يسلون السيوف ضد بعضهم بعضاً، ومن الصعب انقراضهم، ولكن نشر الخطاب المتسامح من شأنه أن يخفف من غلواء التعصب وجنون الحقد والقتل والعنف. لطالما كان للحوار أثره في إيقاف الحروب والمجازر، من خلال التواصل بين الطرفين أن يعلّمهما أن لكل طرفٍ قناعته ومنطقه وحججه، وبالتالي تتحقق نسبية الحقيقة، وخصلة الأعذار الإنسانية.
وكما يؤكد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي في مقالته الأخيرة حول «ذكرى الهولوكوست» وفيه يعتبر أن «الإسلام ينظر لقيم العدالة بكل تجرد، وأنه في هذا يتعامل مع الوقائع التاريخية بكل تجرد وإنصاف»، ثم يشير لتلك الحادثة البشعة وأن لا عاقل في العالم ينكرها، والأهم تأكيده على أن التسامح والتعايش من سنن الله في كونه، وليست مهمة المسلم تحويل الكون كله إلى مسلمين، ولا المسيحي كذلك، ولا اليهودي، والبوذي، ولكن مهمة الإنسانية بعقلائها ومؤسساتها الأممية والدولية تحقيق العدالة والإنصاف وحق التعايش ونشر الحوار وتعزيز قيم التسامح.
إن وثيقة «المدينة» أو ما عرف بـ«دستور المدينة» التي كتبت بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة عبرت عن التعايش بين المسلمين وبقية الأديان ضمن إطار تنظيمي محدد، وهذه المبادرات التي تجري اليوم هي امتداد لأعمق ما في الديانات من قيم حوارية وأدبيات تعايش.