سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

ثورة تعيش سن المراهقة في الأربعين!

لم يشأ الرئيس الإيراني حسن روحاني أن يجعل الذكرى الأربعين للثورة في بلاده تمر، دون أن يكون حاضراً مع عدد من أعضاء حكومته أمام ضريح الخميني، الذي قاد البلاد إلى الثورة من 40 عاماً. فهناك بدا روحاني وهو يتكلم أمام الضريح، وكأنه يتخيل أن الرجل الممدد أمامه في باطن الأرض يسمعه، فقال كلاماً يفهم منه سامعه هذا المعنى، أو ما هو قريب من ظلال المعنى!
مما قاله، إن بلده يواجه ظرفاً اقتصادياً هو الأصعب على مدى أربعة عقود من الزمان مضت، وإن حكومته ليست هي الحكومة التي يمكن أن تلام على ذلك، ولا حتى الحكومات التي جاءت من قبل وسبقت، وإن اللوم يقع كله على الولايات المتحدة وعقوباتها التي لا تتوقف على الجمهورية الإسلامية، وإن الخميني كان يعطي كل اهتمامه للخلاف الداخلي، ولم يكن يعطيه للقوى الأجنبية المتربصة بالجمهورية! وبصرف النظر عن العبارة الأخيرة في كلام الرجل، وعما إذا كانت تشير من بعيد إلى خلافات سياسية تتفاعل بين أركان الجمهورية الإسلامية، وتحت أرضها، وتتصاعد، فالعبارة الأولى حول الظرف الاقتصادي أهم؛ لأنها بلغة أهل القانون عبارة مُنشئة، بقدر ما هي عبارة كاشفة!
هي مُنشئة؛ لأنها أشارت بوضوح لا يحتمل الغموض، إلى أن طهران التي تحاول الظهور أمام العالم بمظهر العاصمة القوية المتماسكة على المستوى الاقتصادي بالذات، إنما تعاني كما لم يسبق أن عانت منذ رحيل الشاه. ومفهوم أن المعاناة هنا تبقى معاناة للناس في عمومهم، وللمواطن على مستواه، وفي حياته، ومعيشته، أكثر منها معاناة لنظام يحكم ويتحكم!
وهذا هو وجه الخطر في معاناة يحس بها كل إيراني من آحاد الإيرانيين، ولا يعرفها رموز النظام الذي يتكلم رئيس الجمهورية فيه عن الظرف الاقتصادي الصعب، وعن مدى صعوبته، وعن وضعيته الحالية عند المقارنة بينها وبين أي وضعية سابقة كان الاقتصاد فيها يواجه أزمة لها هذا الطابع!
ثم هي عبارة كاشفة؛ لأن الرئيس روحاني في حديثه أمام الضريح قد أخلى مسؤوليته، ومسؤولية حكومته؛ بل ومسؤولية النظام كله عن الأزمة، وألقاها كلها على كاهل الولايات المتحدة، وعلى عقوباتها التي تطارد البلاد وتحاصرها من منحنى إلى منحنى، ولا تريد أن تتوقف ولو قليلاً، لعل حكومات المرشد علي خامنئي المتعاقبة تلتقط أنفاسها!
ويستنتج المتابع وهو يتوقف أمام هذا الجانب من العبارة، أن روحاني يبشر شعبه؛ ليس فقط باستمرار المعاناة الحياتية على هذه الدرجة من الصعوبة، ولكن يبشره بازدياد حدتها، فالظاهر في الأفق أن العقوبات الأميركية على إيران مستمرة خلال الأمد الزمني المنظور، أو على الأقل خلال العامين المتبقيين من ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى، فإذا فاز في الانتخابات التي ستجري في نوفمبر (تشرين الثاني) بعد القادم، فسوف تستمر العقوبات نفسها أربعة أعوام أخرى، ومن الوارد طبعاً أن تزيد!
إن مايك بومبيو، وزير الخارجية في إدارة ترمب، لا يكاد يترك مناسبة إلا ويعيد التأكيد فيها على أن العقوبات سوف تستمر، وسوف تزيد، وليس المؤتمر الذي دعت واشنطن إليه في العاصمة البولندية وارسو، والذي سينعقد خلال أيام، إلا خطوة أميركية في هذا الاتجاه! وقد كان العقل يقول إن وجود روحاني أمام ضريح الخميني في ذكرى مرور أربعين سنة على ثورته، لا بد أن يكون فرصة لن تُتاح إلا في ذكرى مرور نصف قرن على الثورة، ليس لإعلان الولاء وتجديده لصاحب الضريح وللمبادئ التي قاد حركته على أساسها، ولكن للمراجعة التي تجعل خلفاءه من بعده يتوقفون أمام أخطاء الممارسة، فلا تتكرر من جديد كما هو حاصل، وكأنه لا قيمة لرصيد التجربة في حياة البشر!
على مستوى الأنبياء، كانت سن الأربعين هي سن النبوة في حياة الرسول الكريم، ففيها تلقى - عليه الصلاة والسلام - رسالة السماء إلى الناس، وعندها بالضبط اختلفت الخطوات التالية في المسيرة، فلم تكن كخطوات سبقت من المسيرة ذاتها!
وعلى مستوى الثورات عموماً، لا بد أن تكون هذه السن هي سن النضوج الثوري، إذا جاز أن يجري على الثورات ما يجري في ميادين أخرى سواها، وليس من الممكن أن تنتقل الحكومة في إيران من مرحلة الثورة التي عاشتها وتعيشها، إلى مرحلة من النضج الثوري الذي لم تعرفه بعد، إلا إذا آمن القائمون عليها بأن الثورة - أي ثورة - لا يمكن أن تولد ثورة، وتعيش ثورة، وتموت ثورة، وأن عليها في مرحلة من مراحلها أن تنتقل من مربع الثورة المندفعة إلى خانة الدولة المسؤولة!
أذكر هنا أن الأديب إحسان عبد القدوس، كان قد جرب في ذكرى مرور 34 سنة على ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، التي قادها جمال عبد الناصر ورفاقه، أن يبحث عنها وعما إذا كانت لا تزال حية في تلك السن، وكان قد أصدر كتاباً عنوانه: «البحث عن ثورة!»، كان فيه يتعقب مبادئ الثورة الستة الشهيرة، مبدأ وراء مبدأ، ليرى ما إذا كانت قد تحققت كلها، أو حتى تحقق بعضها! فنجاح أي ثورة هو في أن تحقق أهدافها، أو مبادئها. وقد اكتشف عبد القدوس أن ثورة عبد الناصر والذين قاموا بها معه، لم تحقق سوى المبدأ الذي كانت تتحدث فيه عن رغبتها في إقامة جيش وطني قوي، وما عدا ذلك بقي في إطار الخيال!
شيء من هذا كان روحاني في حاجة إليه وهو يزور الضريح، مع اختلاف طبعاً بينه وبين إحسان عبد القدوس، فالأخير أديب حالم بطبيعته، ولكن الأول سياسي واقعي بطبعه، ومن شأن السياسي أن يبحث عما هو ممكن في سياسته، أو في ثورته، كما هو الأمر في حالة روحاني، وأن يتخلى عن المستحيل، ويتحرى الممكن، ويتمسك به ويعمل عليه!
والمستحيل في حالة ثورة الخميني، هو أن يكون نجاحها عن طريق دس الأنف في شؤون الدول المجاورة، أو من باب مد اليد إلى أراضي هذه الدول بما يعبث بأمنها، وسيادتها، ونطاق قرارها الوطني، أو أن يكون في غير صالح المواطن الإيراني العادي، الذي قد يهمه أن تكون دولته عالية الصوت في منطقتها وفي العالم، ولكنه يتساءل بالتأكيد في النهاية عن حصيلة الصوت العالي في جيبه المباشر!
تبدو الثورة الإيرانية وهي تحتفل بذكراها الأربعين، أحوج الثورات إلى البحث عن نفسها، ليس على طريقة إحسان عبد القدوس، ولكن على طريقة الباحث عما إذا كانت أهداف ثورته سوف تصل به إلى أمل يريده أن يتحقق، أم أنها ستضعه أمام مأزق!
فعبارات روحاني على الضريح، تقول إن الخيار الثاني كان هو الحصيلة في الذكرى الأربعين، وأن الثورة إلى الآن لم تعرف سوى العيش في أجواء سن المراهقة!