إميل أمين
كاتب مصري
TT

الشرق الأوسط والطريق إلى «وارسو»

في الطريق إلى قمة وارسو، وبمشاركة نحو ثمانين دولة من دول العالم، يتساءل المرء: هل ستخرج مقررات تنتشل المنطقة من وهدة شديدة السخونة انتابت جسدها عبر السنوات الثماني المنصرمة بشكل خاص، وإشكاليات وتحديات قدرية قائمة منذ عقود أبعد، تلت التحرر من الاستعمار العسكري الأجنبي؟
لعل اسم القمة «الأمن والسلام في الشرق»، يشي بما هو أكثر اتساعاً من مجرد البحث عن سبل وآليات لضبط السلوك الإيراني المختلّ والمعوجّ منذ أربعة عقود، وإن بقيت إيران في كل الأحوال، حجر عثرة في منطقة ملتهبة.
علامة الاستفهام الجدير بنا طرحها: «هل هناك نية أميركية – أوروبية بالفعل لمساعدة الشرق أوسطيين في إيجاد طرق السلام ودروب العيش بكرامة إنسانية، أم إننا أمام إرهاصات لفصل جديد من فصول الشرق الأوسط الجديد الذي لم ينفكّ الحديث عنه يمضي قدماً منذ تسعينات القرن الماضي وحتى الساعة؟».
مهما يكن من أمر، فإنه لا أحد يختلف حول أن إيران سيكون لها نصيب الأسد في مؤتمر وارسو، سيما وهي قولاً وفعلاً المسبب الأكبر للاضطراب في الشرق الأوسط، عبر إرهابها السيبراني، وصواريخها الباليستية، ووكلائها في المنطقة، ورجالات حرسها الثوري وجواسيسها المنبثّين في أدنى الأرض وأقصاها، عطفاً على العنف الحلزوني الذي تتبعه وتتهدد من خلاله بقية دول العالم.
نعم مطلوب بشكل حاسم وحازم وضع إيران في حجمها الطبيعي كما ينادي وزير الخارجية الأميركية السيد مايك بومبيو.
غير أن إشارات غير مريحة في الطريق إلى وارسو تأتي من روسيا وأوروبا، ويمكن تفهم عدم مشاركة روسيا بأن لها مصالح مباشرة مع إيران، وتستخدمها في أوقات أخرى كبيدق على رقعة الشطرنج الأممية، تشاكس بها واشنطن مالئة الدنيا وشاغلة الناس، روما العصر وعاصمة كل مصر.
أما غير المستساغ من القمة التي تجري على الأراضي الأوروبية، فيتمثل في غياب أطياف أوروبية عريضة، بعضها وثيق ولصيق الصلة بالعالم العربي، بأكثر من علاقته بطهران، والغياب مرده أنها تسعى حتى الساعة للحفاظ على درجة من التواصل الدبلوماسي مع الإيرانيين، ولهذا تقترب من آلية اقتصادية لتسهيل التبادلات التجارية مع نظام الملالى، وتنسى أنه يرسل عناصره الأمنية وفرق اغتيالاته لترويع الآمنين واللاجئين على أراضيها.
مثير جداً مكان انعقاد القمة، إنها بولندا، وليست فرنسا أو بريطانيا، أو أيٍّ من الدول الأوروبية المشاطئة على الجانب الآخر من المتوسط، أي الشريكة جغرافياً، والوثيقة والجارة الأقرب ديموغرافيا من العرب والمسلمين، بخلاف بولندا البعيدة تاريخياً، تلك التي عرفناها مهمومة ومحمومة بالنفوذ السوفياتي في نهايات القرن المنصرم، وبعيدة عن الشرق الأوسط وسردياته المؤلمة.
أول المتأثرين بالأمن والسلام في جغرافية العالم المعاصر قطعاً هم الأوروبيون، لكن لا تزال قصة دورانهم في فلك آيات الله ونظامهم الثيوقراطي، لغزاً كبيراً إلى الحد الذي يقتربون فيه من التضحية بالشراكة مع الحليف التاريخي الأميركي على الشاطئ الغربي من الأطلسي.
نعم تمثل طهران بؤرة خطيرة في الجسدين الخليجي والشرق أوسطي على حد سواء، لكن في الوقت نفسه لا تزال القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، والشغل الشاغل لنحو ملياري ونصف المليار أو أزيد من المسيحيين والمسلمين حول العالم، عائمة غائمة، وما تردد من أطراف ومصادر أميركية عن طرح المبادرات الأميركية الأخيرة بشأنها للنقاش في ثنايا وحنايا قمة وارسو، وما تسرب من قبل عن صفقة القرن، ورؤاها الهلامية، عطفاً على قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل، جميعها دعت الجانب الفلسطيني إلى اعتبار «وارسو» مؤامرة هدفها تصفية القضية الفلسطينية، ومحاولة أميركية – إسرائيلية، لتمرير ما سمته حركة فتح «صفقة العار»، والترويج لأفكار لا يقبلها أو يتعاطى معها إلا كل خائن للقدس والأقصى والقيامة، ولهذا يرفض ممثلو الشعب الفلسطيني المشاركة في «وارسو»، وإن كان المرء يتساءل أيهما أجدى: الذهاب، ومخاطبة العالم حتى ولو للمرة المليون بحقيقة القضية وعدالتها، وعدم نزاهة الوسيط وجوره، ومَن شاء فليقتنع ومن شاء فليرفض، أم الاكتفاء بالامتناع كفعل سلبي، وبخاصة في ظل وجود الخصم الذي يجيد تقديم قضيته ويجد من يدعمه ويزخمه ظالماً دوماً غير مظلوم أبداً؟
يقتضي قيام سلم وأمن شرق أوسطيين مواجهة حاسمة حازمة، لا تصد ولا ترد للإرهاب في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا تحديداً، وبخاصة في ظل مؤتمر «ميونيخ للأمن العالمي» الذي ينطلق في وقت مواكب، وفيه تحذيرات من تضاعف الهجمات الإرهابية في الساحل الأفريقي، ما يعني أن أوروبا صديقة طهران بدايةً هي الهدف الأقرب، وحركة التجارة والملاحة العالمية الأميركية تضحى مهددة.
الحديث النظري عن أمن وسلام الشرق الأوسط يضحى غير ذي جدوى في ظل الخطط الأميركية للانسحاب السريع من سوريا، الأمر الذي حذر منه تقرير مفتش وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» الجمعة الماضية، وباتت شقة الخلاف بين المجمع الاستخباراتي الأميركي وبين الرئيس تنذر بمآلات مخيفة ستتردد أصداؤها برداً وسلاماً على «داعش» و«القاعدة» ومن لفّ لفهما.
حسناً جداً أن يلتئم شمل ثمانين دولة في وارسو، العاصمة التاريخية التي على أرضها دُقّ المسمار الأول في نعش الشيوعية، فهل ستقدم يد العون للشرق الأوسط، ليعيد ترتيب أوراقه المبعثرة سياسياً واقتصادياً، أول الأمر؟
لا يزال الملف السوري غير مرتاحة طبقاته، فيما الأزمة الليبية يتسع خرقها على الراتق، وأطراف عربية خليجية بدورها تتماهى معها واشنطن وهي تدرك خطرها وشرها المجاني.
الشرق الأوسط في حاجة إلى مارشال سياسي وأمني، وإلى إنزال حداثي كمكافئ موضوعي لإنزال الحلفاء في نورماندي، إنزال عقلي وذهني، وتالياً مالي، ومع غياب الأوروبيين الذين أشعلوا ملفات في المنطقة، يضحى من الصعب على واشنطن أن تفعل كل شيء بمفردها.
فارق كبير بين التشاؤم وبين قراءة الأزمنة بعين سياسات الواقع لا اليوتوبيا السياسية.