حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«داعش» أبرز جرائم النظام الإيراني

ما كشفه وزير العدل العراقي الأسبق عن كيفية نشوء التنظيم الإجرامي «داعش»، لا يترك مجالاً للشك في الدور المتقدم الذي دبره بليلٍ حكام طهران لإحكام سيطرتهم؛ من بغداد إلى دمشق وبيروت. يقول المسؤول العراقي السابق، وهو من حزب «الفضيلة» المؤيد للإيرانيين، إنه في عام 2013 أُبلغت حكومة نوري المالكي؛ رجل طهران الأول في العراق، معطيات من الاستخبارات بأن عملاً مسلحاً سيتم في توقيت معين ويستهدف بسيارات مفخخة سجن «أبو غريب» وسجن «التابعي» للإفراج عن سجناء خطرين.
بدل أن يتم تعزيز الدفاع عن السجنين المستهدفين، جرى سحب الحماية والحراسات، ولم يُترك إلا بعض حراس المداخل وعمال المطابخ، فتم «الاقتحام» بسلاسة وجرى الإفراج عن نحو 500 إرهابي شكلوا الصفين القياديين الأول والثاني في «داعش». الغريب أن هذه الواقعة - الجريمة لم يتم التركيز عليها كثيراً، لأن «مآثر» المالكي تلاحقت، فهو من موقعه قائداً عاماً للقوات العراقية مسؤول عن الأوامر التي صدرت لفرقتين، وربما ثلاث، من الجيش العراقي، أي ما بين 25 و30 ألفاً من الضباط والجنود، لترك مدينة الموصل قبل هجوم شنه نحو 500 إرهابي من «داعش»!! فرّ الضباط والجنود بلباس مدني وتركوا خلفهم عتاداً عسكرياً بعشرات مليارات الدولارات، وفوق ذلك نصف مليار دولار وسبائك ذهبية في فرع المصرف المركزي في الموصل، مما وفر البنى التحتية للانطلاقة الإجرامية لـ«داعش»، ومعه انتقل مشروع هيمنة حكام طهران إلى مرحلة أعلى من مراحل ترسيخ «الهلال الشيعي»!! هنا لا بد من فتح مزدوجين للإشارة إلى «مأثرة» أخرى من مآثر الحكم العراقي آنذاك، وهي أنه بعد استعادة الموصل وتتالي سقوط دويلة «داعش»، لم يعثر على أي من تلك الأسلحة، لا سيما الدبابات الأميركية الحديثة «أبرامز»، وقطع المدفعية الثقيلة وألوف آليات الـ«هامر» المصفحة، ويرى عارفون أنه كان هناك متسع من الوقت بين فرار العسكريين وبدء تسريب تلك الأسلحة إلى إيران عبر ميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني.
بقية القصة معروفة؛ احتل «داعش» ثلث مساحة العراق؛ نينوى وصلاح الدين والأنبار... وسواها، وتوسع في سوريا التي انقسمت فيها السيطرة بين «داعش» من جهة؛ وتنظيمات متطرفة مثل «النصرة» فرع «القاعدة» وجماعتي «أحرار الشام» و«جيش الإسلام». قاد هذه التنظيمات المجموعة الإرهابية التي عرفت بـ«أصدقاء صيدنايا» وكان على رأسها أبو محمد الجولاني قائد «جبهة النصرة»، وقد أفرج عنهم رئيس النظام السوري بتشجيع من مستشاريه الإيرانيين.
مخطط خطير رسم أماكن انتشار وسيطرة هذه الجماعات في البلدين، لاستهداف الكتلة السنية الكبيرة في شمال العراق وغربه وكل وسط سوريا وغربها. عقل جهنمي، استثمر في قراءة أميركية سادت بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تماثلت مع تقسيم بن لادن العالم إلى فسطاطين، فتعاملت هذه العقلية مع الأكثرية على أنها بيئة حاضنة للإرهاب، وهي رؤية ثبت قصورها عندما تغاضت أميركا ومعها الدول الغربية عن أكبر عملية تصدير لـ«الثورة» الإيرانية، أُرفقت مع أوسع عمليات تهريب للمخدرات وتبييض للأموال... ثمن قبلت به إدارة الرئيس أوباما مقابل الاتفاق النووي!! والحصيلة جلية مع تعرض هذه المناطق لأكبر موجة تهجير وتغيير ديموغرافي، بعد نزوح أكثر من مليوني عراقي وأكثر من 6 ملايين سوري، وكل هؤلاء من الكتلة السنية الوازنة، فضلاً عن التدمير الممنهج الذي طال أهم المدن من الموصل إلى حلب وحمص... وغيرها.
طيلة المرحلة التي أعقبت إعلان قيام «الدولة الإسلامية» لم تُسجل مواجهات تذكر بين ميليشيات «الحرس الثوري» وهذه المجموعات، حتى إن ما أثار العجب أنه بعد استعادة الموصل لم يعرض شيء عن أسرى «داعش» ولم تنشر الصور للضحايا، بل جرى تركهم يذوبون بين النازحين (...) وعندما حوصروا في جرود لبنان كما في سوريا، كانت هناك جهات تفاوض وتُجري تبادل أسرى وتؤمن الحافلات المكيفة للإرهابيين، فيتم نقل جماعات «النصرة» إلى إدلب، وتحمل الحافلات الخضراء مجموعات «داعش» من الجرود اللبنانية إلى دير الزور، والأخطر تمثل على الأرض حين قبضت ميليشيات قاسم سليماني على نينوى وصلاح الدين والأنبار في العراق ومناطق سورية واسعة، ولم يعد يُسمح باتخاذ أي تدبير يتيح العودة لمن يرغب؛ لا بل طُبِّق في سوريا قانون رقم «10» على أملاك الغائب، الذي أتاح لهذه الميليشيات وضع اليد على منازل الفارين. حصيلة هذه «السلبطة» من جانب حكام إيران أن العراق بات دولة فاشلة بكل ما للكلمة من معنى، وسوريا مدمرة ومهددة باحتلالات طويلة، ويشهد لبنان انهيارات متتالية تتويجاً لأزمات خانقة لم تكن الوصفات الإيرانية التي أضعفت الدولة اللبنانية بعيدة عنها، فنجح معها «حزب الله» لأول مرة منذ عام 2005 في الإمساك بقرار البلد وبات يتعامل على أنه الموجّه والمرجعية للحكومة الجديدة.
وهكذا في مرحلة تركيز طهران على «صادراتها الثورية» المربحة، مع تمتين الأسس لتدخلها في العراق، وفي سوريا، وإصرارها على إطالة أمد الحرب اليمنية، ودورها في تعميق الانقسام الفلسطيني، إلى تركيزها على المد الطائفي والمذهبي... في هذا الظرف زار لبنان الوزير محمد جواد ظريف في محاولة لتعميق التغلغل الإيراني في لبنان من خلال عرض لتسليح الجيش بأنظمة دفاع جوي؛ إلى عروض تجارية، وتحويل بيروت منصة تبحث فيها طهران أوضاع مؤيديها اللبنانيين والفلسطينيين وأدوارهم ارتباطاً بسياستها العامة.
الزيارة؛ وإن حملت عنوان التهنئة بتشكيل الحكومة، لم تكن تلبية لدعوة رسمية، بل مناسبة افتعلتها طهران لتوجه من بيروت رسالة بأن إيران حاضرة بقوة، وشريكة من خلال وكيلها الرسمي «حزب الله» برسم السياسة اللبنانية. من هذه الخلفية جرى حثّ المسؤولين على الابتعاد عن المنظومة التي ستتبلور في «مؤتمر وارسو» لتشديد العقوبات على النظام الإيراني. وكان أمراً طريفاً إعلان الوزير باسيل أن نهج «النأي بالنفس» يملي على لبنان المقاطعة، فيما يدرك الجميع أن لبنان بمثل هذا الموقف يتجاهل مصالحه وينحاز لمحور الممانعة، أما الزعم بأن الوجود الإسرائيلي سبب للغياب، فإسرائيل العدو موجودة في الأمم المتحدة وفي كل المحافل الدولية ولم نشهد مقاطعة لبنانية... لكن يبقى الأخطر أنه بعيداً عن تأكيد عدم ملاءمة أسلحة الدفاع الجوي للجيش، وأساساً لم يُعرف لهذه الأسلحة أي جدوى في الدفاع عن المواقع الإيرانية في سوريا، حمل ظريف عروضاً تجارية (كهرباء ونفط ودواء)، وهو، رغم إعلانه أن بلاده «لا تريد إحراج لبنان»، طرح العمل على تعاملات «تتم وفق آلية خاصة شبيهة بتلك التي أُقرت من جانب دول أوروبية»، علما بأنها لا تتيح لطهران الحصول إلا على مواد غذائية وأدوية وتحجز الفائض النقدي، فلو أقيمت مع لبنان فماذا سيصدر لبنان لإيران؟ واضح أن القطاع المصرفي هو الهدف، هذا يعني أن الزيارة بداية ممارسة الضغط العالي لاستخدام لبنان أكثر فأكثر بوصفه إحدى الساحات للالتفاف على العقوبات الأميركية. هنا مفيد التنبه إلى أن هذه الضغوط ستزداد مباشرة أو عبر «حزب الله»، ومن ساهم في ابتكار «داعش» و«النصرة» والاستثمار فيهما لفرض رؤيته وأهدافه وهو المطور والمجدد للفكر الذي أنجبهما، قد يكون في جعبته الكثير لتطويع لبنان.