عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الفقر والبطالة... حلّ على الطريقة الفنلندية

ما الذي سيحدث لو أن الحكومة ضمنت لكل مواطن دخلاً شهرياً ثابتاً يحقق له الحد الأدنى من احتياجاته من دون فرض قيود أو شروط عليه مقابل ذلك؟ ما تأثير ذلك على الدولة وعلى المجتمع وسوق العمل؟
هذا بالضبط ما فعلته حكومة فنلندا التي نشرت هذا الأسبوع نتائج أولية لتجربة بدأتها منذ عامين وطبقتها على ألفي شخص عاطل عن العمل تتراوح أعمارهم بين سن 25 و58 منحتهم دخلاً شهرياً ثابتاً قدره 560 يورو (635 دولاراً)، وذلك في إطار البحث عن نظام جديد يمكن تطبيقه في المستقبل لمواجهة المتغيرات الضاغطة في سوق العمل، والاحتياجات في نظام الضمان الاجتماعي. النتائج الأولية التي نشرت تشير إلى أن المشاركين في البرنامج سجلوا أن الضغوط النفسية الواقعة عليهم تقلصت مما انعكس إيجاباً على حياتهم وصحتهم، لكن البرنامج لم يؤثر أو يساعد بأي شكل في حصولهم على عمل إضافي لتحسين دخلهم.
فنلندا ليست وحدها، فهناك عدد من الدول والشركات العملاقة بدأت تدرس أو تجرب وسائل لمواجهة التحديات حيث ترتفع معدلات البطالة في ظل المتغيرات المتسارعة في سوق العمل وأنماطها في عصر الكومبيوتر والذكاء الاصطناعي والروبوتات التي تحل محل البشر بشكل متسارع في عدد من الوظائف.
الأتمتة تسير بشكل متسارع حيث تقوم الماكينات الذكية والروبوتات بكثير من العمليات في المصانع الحديثة مثلما يحدث في صناعة السيارات، أو تدريجياً في صناعات أخرى عديدة من عمليات الشحن والتفريغ في الموانئ إلى صناعات الدواء والغذاء. كذلك يغير الكومبيوتر في كل مجالات العمل تقريباً من المصارف إلى المزارع وحتى غرف العمليات، وكل ذلك على حساب فرص العمل للبشر. بتنا اليوم نتعامل مع مصطلحات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي، و«إنترنت الأشياء»، والمصانع الذكية، والطابعات ثلاثية الأبعاد، وغيرها من المصطلحات التي تغير في حياتنا وتقلب سوق العمل رأسا على عقب.
ووفقاً لتقارير دولية، هناك 800 مليون إنسان سيفقدون وظائفهم للروبوتات بحلول عام 2030، وستكون التأثيرات متفاوتة من وظيفة إلى أخرى. وحتى لو لم ننظر إلى هذه التغيرات المستقبلية، فإن العالم فيه اليوم حوالي 192 مليون إنسان بلا عمل، وفقاً لأرقام منظمة العمل الدولية في تقرير «العمالة العالمية والتوقعات الاجتماعية... اتجاهات عام 2018». أضف إلى ذلك نحو 176 مليون شخص يعملون لكنهم يعيشون في فقر مدقع.
الصورة تزداد قتامة إذا نظرنا إلى الأرقام التي تقول إن هناك نحو 4 مليارات إنسان بلا أي ضمانات اجتماعية أو صحية، ولا يتلقون أي إعانات مالية من حكوماتهم. والعالم العربي بالتأكيد لديه مشكلاته في هذا المجال، إذ يعتبر عدد العاطلين فيه من بين الأعلى في العالم، ولا يتلقى العاطلون أي إعانات في معظم دوله. وإذا ركزنا على الشباب فإن الإحصائيات الدولية والعربية تشير إلى أن هناك 100 مليون شاب بين سن 15 و29 في العالم العربي، نسبة البطالة بينهم تقدر بنحو 29 في المائة وهي من أعلى النسب عالمياً، مما يمثل تحدياً كبيراً للساسة والمخططين.
وفي إطار التجارب والسياسات التي تسعى بعض دول العالم لتطبيقها يمكن أيضاً الإشارة إلى أن الحكومة الشعبوية الحالية في إيطاليا (حركة الخمس نجوم) بدأت خطوات لتطبيق نظام «دخل المواطن»، الذي يضمن للفقراء وذوي الدخل المحدود راتباً شهرياً ثابتاً قدره 780 يورو (أي ما يعادل 893 دولاراً) لا يتأثر إذا حصلوا على وظيفة لزيادة دخلهم. الفكرة هي لمواجهة الفقر والزيادة في نسبة البطالة في بلد واجه ضغوطاً مالية واقتصادية شديدة منذ الأزمة المالية العالمية الطاحنة في 2008. الشرط الوحيد الذي تفرضه الحكومة لكي يتأهل الشخص للحصول على بطاقة «دخل المواطن» هو أن يكون يبحث عن عمل. وترد الحكومة على منتقديها الذين يقولون إن البرنامج مكلف وميزانية الدولة لا تتحمله، بالقول إن البرنامج سينشط السوق المحلية لأنه سيعطي الفقراء مالاً لينفقوه على احتياجاتهم. وتشير إلى أن البرنامج سيساعد المتقاعدين وكذلك الفقراء والعاطلين عن العمل.
قد يسأل سائل عن الفرق بين هذه التجربة ونظام الضمان الاجتماعي المتبع حالياً في كثير من دول العالم المتقدم والذي يمنح العاطلين عن العمل مبلغاً شهرياً بسيطاً إلى حين حصولهم على عمل. الفارق كبير، إذ أن النظام المتبع حالياً يفرض الكثير من الشروط لتحديد المستحقين، ويقيدهم بمدى زمني للحصول على عمل، وإذا حصلوا على أي وظيفة يحرمهم من الإعانة الشهرية أو جزء منها. نتيجة لذلك تعرض هذا النظام لكثير من الانتقادات على أنه يشجع على البطالة، ويلغي الحافز لزيادة الدخل من خلال أداء أي عمل مهما كان محدوداً أو بسيطاً.
الدول الواعية تستشرف المستقبل، وتخطط لمواجهة تحدياته، فأين نحن من ذلك؟ هناك تغيرات كبرى متسارعة، تحتم على الدول التفكير في مستقبل أجيالها، وتحديات سوق العمل التي ستختفي فيها كثير من الوظائف أو سيحل فيها الذكاء الاصطناعي والروبوتات محل البشر، مما يتطلب إعادة النظر في مناهج التعليم والتدريب للتكيف مع المتغيرات وربطها باحتياجات سوق العمل المستقبلية والمهارات التي تحتاج إليها. في موازاة ذلك تدور أسئلة كثيرة بشأن مستقبل الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي لتلبية احتياجات مجتمعات ترتفع فيها معدلات الشيخوخة، وتتقلص فرص العمل أمام الشباب. فالتنمية ترتبط بالتخطيط السليم للمستقبل، وبتوفير نظام تعليم قوي يؤهل الأجيال لاحتياجات المستقبل وتحدياته، ويوفر الاستقرار والاطمئنان للمواطن من خلال نظام صحي متين، ورعاية اجتماعية معقولة. من هنا كان الاهتمام بتجربة فنلندا بين المختصين الذين يفكرون في كيفية مواجهة قضايا الفقر والبطالة في عالم تزداد تحدياته في عصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي.