حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

{الانقلاب} اللبناني في جردة أولية

لم يحجب صخب المناقشات النيابية للبيان الوزاري لحكومة الحريري (54 متكلماً) غابة الأضاليل التي أُريد منها تغطية الانقلاب الزاحف الذي يكاد يخنق البلد. كما أن إجماع المتحدثين على الإيحاء أنه حلَّ في لبنان زمن مكافحة الفساد، الذي ينخر جل الوزارات ومؤسسات السلطة، وما من فاسد تمت الإشارة إليه ووجهت له تهمة أو استدعي إلى القضاء، يعني أن الإصرار قائم على اعتبار الفساد هو «راجح»، أي الكذبة في المسرح الرحباني، والهدف مزيد من إيهام المواطنين لصرف الأنظار عن تحولٍ خطير يتجسد في دور السلطة وممارستها: إنها إدارة لا شأن لها بالسياسة، ولا دور لها في القرار السياسي.
خُطب المتحدثين جانبت المسائل السياسية، وهذا المنحى يتعمق كل يوم بعد «تسوية» العام 2016. فلم يتم التطرق أبداً لمسائل السلاح وتغول الدويلة على الدولة، وانتهاك السيادة والتدخل في الحرب السورية، وتحول لبنان منصة لتوجيه الرسائل والتدخل خدمة لمطالب محور الممانعة. كلهم بالصف انصاعوا للحقيقة الجديدة، وهي أن المسائل السياسية الاستراتيجية ليست شأناً نيابياً، والقرار بشأنها ليس على طاولة مجلس الوزراء، وأساساً لم يتطرق أحد إلى تغييب البيان الوزاري أي إشارة للقرار الأممي 1559 بما يعنيه من حرص دولي على سيادة لبنان، وتمسك ببسط سيادة الشرعية اللبنانية دون شريك، وإن ترك المايسترو لبعضهم حق تسجيل التحفظ على طريقة «ببكي وبروح»، أي إبداء تحفظٍ لا ترجمة له على ما جاء في البند المتعلق بالحق بالمقاومة (...) إذ تم رفض إضافة عبارة المقاومة «من ضمن الشرعية اللبنانية».
كما أن أحداً لم يتطرق إلى ما ورد في البند العرضي عن المحكمة الدولية، والمفترض أنها محكمة العدالة للبنان، ومحكمة إفهام من اعتمد منذ عقود منحى تطويع البلد عبر نهج تصحيره من أبرز قيادييه، أن زمن تسجيل الجرائم الكبرى ضد مجهول قد انتهى، فورد بالحرف أن الحكومة «ستتابع مسار المحكمة الخاصة بلبنان التي أُنشئت مبدئياً لإحقاق الحق والعدالة»... هنا الفخ المنصوب في كلمة «مبدئياً» التي تركت لـ«حزب الله» مثلاً، أن يحدد بالنهاية قبول أحكام المحكمة أو رفضها نهائياً، وربما هناك من نصح الرئيس الحريري بأن يتناول هذا الموضوع - الثغرة، فأفرز له حيزاً في خطاب «ذكرى 14 شباط» لأن الأحكام ستصدر قريباً ليقول إن الأساس سيكون معرفة الحقيقة، متجاهلاً المسؤولية الوطنية عن التزام الأحكام والمحاسبة.
نعم كانت المناقشات النيابية أشبه بالمرآة للدور المطلوب من برلمان العام 2018، وهو الانصياع لشروط المنتصر الذي يعرف بدقة أن الآخرين على استعداد لبذل كل شيء من أجل المشاركة في جنة الحكم وفي المحاصصة الطائفية، فحدّد توازنات الحكومة وتوزيع الحقائب وإلى حدٍ بعيد أوحى بالكثير من الأسماء، وعلى سبيل المثال يردد خبثاء أن اسم الدكتور مصطفى علوش القيادي المستقبلي الذي تردد اسمه في عداد الوزراء جرى في اللحظة الأخيرة استبعاد توزيره لأن مواقفه السياسية كما يُقال مزعجة لثنائي «تفاهم مار مخايل» (...) ثم يأتي من يتحدث بعد تثبيت محاصصة طائفية مقيتة عن بدء المعركة ضد الفساد، وهم في التركيبة الائتلافية الهجينة، حكومة أشبه بمجلس نيابي مصغر، أقدموا على إلغاء المبدأ الدستوري المنصوص عنه في مقدمة الدستور عن الفصل بين السلطات، كما شطبوا فحوى المبدأ المكمل وهو التعاون بين السلطات، الأمر الذي يسقط المراقبة والمحاسبة، والخطر قد يكون أبعد من ذلك وأشد وطأة على اللبنانيين لأن التشريع بعد اليوم لن يكون إلا لخدمة مصالح هذا الائتلاف ومرجعيته!!
وبعد، المنحى الانقلابي في هذه المرحلة أول ما برز كان في مسلسل التأليف الذي خارج خطوة الاستشارات النيابية الملزمة لم يستند إلى نصوص الدستور، بل ذهب المسلسل الجديد أبعد مما كان الاحتلال السوري قد ثبته للإمساك بكل الخيوط، وهذا الأمر الذي استأنست له في السابق الطبقة السياسية ما زال قائماً في عهد البدع التي أدخلتها تسوية الدوحة، ما حدا بالرئيس تمام سلام إلى كشف المستور بالحديث عن «الخطيئة الأصلية بعد الدوحة: حكومات ائتلافية وثلث معطل، وهرطقة في الممارسة مثل المعايير للتأليف ونظرية التهديد بسحب التكليف وحصة رئيس الجمهورية»، ولاحقاً يبدأ الاجتهاد بأن ما جرى مطابق للنص (...) فيما ثابت من التجربة أن رئيس الحكومة المكلف لم يعد أبرز العاملين على عملية التأليف، بل بات لكل طرف طائفي حقه ولو النسبي بالفيتو، فيما البصمة الثقيلة كانت لـ«حزب الله»، وعن ذلك كتب إبراهيم الأمين، رئيس تحرير «الأخبار» المقربة من الحزب، أنه «لأول مرة جرى تجاوز صيغتي الـ43 والطائف في تشكيل الحكومة، وهناك مرحلة انتقالية نحو صيغة ثالثة عنوانها سقوط المناصفة وتشغيل العداد (...) ولا أحد يعلم ما إذا كان تثبيتها يتطلب العنف (...) لكنها ستكون بالنهاية بما يتلاءم مع ميزان القوى الجديد في المنطقة».
إذن الحقيقة مما يريده «حزب الله»، والقراءة الأبلغ لما تم إنجازه واضحة وأسود على أبيض في نصوص موثقة، ورغم ذلك تستمر جوقة الزجل السياسي عن الطائف وعن التمسك به وبالدستور المنبثق عنه، لكن في حقيقة الأمر لا أحد قدم المثال أنه ساعٍ بالفعل لتطبيقه وجعله الفيصل بين اللبنانيين. كل ما تم يُظهر أن الصيغة السورية المشوهة للدستور والمستمدة من الاتفاق الثلاثي للعام 1986، التي اعتمدت حتى العام 2005 تقدمت أكثر باتجاه طي المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. خارج الدستور ومندرجاته، أيا كانت الجهة التي أرادت تقديم نفسها أنها «روبن هود» لبنان اليوم وأنها لا هاجس لها إلاّ الإصلاح وحقوق الناس، وأنه لن تتكرر فاجعة إقدام لبناني على حرق نفسه حتى الموت، وأن أحداً لن يموت بعد اليوم على أبواب المستشفيات... الخ، فإنه من الخطر بمكان أن يكون لبنان اليوم في مرحلة بدأ معها الطرف المنتصر البحث عن مصادر تمويلٍ من الدولة بعد التراجع في تدفقات «المال النظيف»!! لا بل كل الخشية من أن يكون المسار الجديد أن البلد ذاهب مع هذا الحكم نحو مزيد من الإفقار والفساد والأشد خطورة المزيد من الاستبداد وهناك فعلاً من يراهن على توسل العنف لفرض الخنوع والذل على المواطنين.
حين ينعقد مجلس الوزراء اليوم الخميس في أول جلسة له بعد الثقة النيابية، أمامه من خارج جدول الأعمال سؤال الناس عما جرى من خرق فادح لما قالت الحكومة إنها متمسكة بسياسة النأي بالنفس، فكيف سيكون الموقف حيال ما أعلنه وزير الدفاع في مؤتمر ميونيخ حول «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري وبدا ناطقاً باسم النظام السوري (...)، وأمامه أيضاً زيارة وزير شؤون الدولة لقضية النازحين السوريين إلى سوريا وما قام به بعيداً عن «توجيهات» رئيس الحكومة، فهل سيؤكد مجلس الوزراء أن هناك مجالاً حقيقياً للنأي بلبنان أم أنه النظام الطائفي في ذروة قوته والجمهورية المستضعفة ماضية في منحى التفكك والتلاشي وما كتب قد كتب؟!