حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

على «طريق الحرير» إلى المستقبل

مع دخول العالم عتبة القرن العشرين، كانت العيون مشدودة أكثر فأكثر إلى الغرب، إلى «العالم الجديد»: أميركا التي باتت أرض الأحلام. الأوروبيون كانوا الرواد، ومعهم كثر من رعايا الإمبراطورية العثمانية: «الرجل المريض». حملت «التايتنيك» أصحاب لغات مختلفة، وعندما وقعت تلك الكارثة، كان من بين الضحايا عشرات اللبنانيين، وكثر من العرب أهل بلدان المتوسط. اندمجوا وأنتجوا، وإذا كان جبران كاتب «النبي» قد حقق تلك الشهرة التاريخية التي انطلقت من مدينة «وول ستريت» نيويورك، فإن الشهرة التي ارتبطت باسم ستيف جوبز السوري الأصل هي أيضاً طاغية.
بعد قرنٍ ونيف من الزمن، تتجه العيون شرقاً إلى الصين، العملاق الآسيوي الذي أخرجته من سُباته نظريات رائدة رسمها دينغ شياو بينغ بدءاً من نهاية سبعينات القرن الماضي، على أنقاض «الثورة الثقافية» و«عصابة الأربعة» وثورتهم الدائمة... لتبدأ القفزة الكبرى، وتتحول الصين إلى «العالم الجديد» الواعد. الاقتصاد الثاني عالمياً، والبلد الأعلى نمواً بشكل مطرد ومنذ سنوات، الذي يوفر اليوم نحو 90 في المائة من المنتجات التقنية في العالم. اليوم، تضع الصين نصب أعينها أن تكون الدولة الرائدة في مجال الذكاء الصناعي والتكنولوجيا المتقدمة، وكل المؤشرات العلمية والدراسات الاقتصادية تشي بأنها ستحتل بدءاً من عام 2030 الريادة الاقتصادية، لتصبح القوة الأولى، وتتجاوز الولايات المتحدة.
إلى هذا «العالم الجديد» وصل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، متوجاً جولته الآسيوية التي قادته تباعاً إلى باكستان والهند. ومن هناك، يعلن أن الجزيرة العربية تشكل جزءاً رئيسياً من «طريق الحرير»، حيث تتلاقى هذه المبادرة الجبارة مع «رؤية المملكة 2030». لا مبالغة أبداً، فالصين قبل الزيارة التي شكلت خطوة متقدمة على طريق بناء شراكات قوية في كل المجالات، كانت تحتل المرتبة الثانية بين أكبر عشر دول مصدرة للمملكة العربية السعودية، وتحتل المرتبة الأولى بين الدول المستوردة، حيث تؤمن السعودية اليوم 12 في المائة من احتياجات الصين للطاقة، والرقم إلى ارتفاع بعد الاتفاقات الجديدة التي وقعتها «أرامكو». وما يثير الاهتمام أن إجمالي التبادل بين الصين وبلدان الخليج، وهو نشاط حديث نسبياً، بلغ 127 مليار دولار عام 2018، فيما يقدر حجم التبادل مع كل بلدان السوق الأوروبية بـ140 مليار يورو، والكفة تميل شرقاً باطراد.
لقد شهدت السنوات الأخيرة ارتقاءً مطرداً في اللقاءات على مستوى القمة بين البلدين، ولهذا كثير من الدلالات والأبعاد. في قمة الـ20 مؤخراً، في الأرجنتين، التقى الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس شي جينبينغ، وكان الرئيس الصيني قد زار الرياض في يناير (كانون الثاني) من عام 2016. وفي شهر أغسطس (آب) من العام نفسه، زار ولي العهد بكين. وفي مارس (آذار) 2017، كانت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للصين، وتشكيل اللجنة السعودية - الصينية الرفيعة، لتستضيف جدة بعد أشهر من تلك الزيارة منتدى الاستثمار السعودي - الصيني. وتأتي الآن هذه الزيارة التي تتزامن مع نهج معلن للرياض أن السعودية ساعية لكي تكون وجهة عالمية مقصودة، وقوة إنتاجية واستثمارية دولية، لتنجز الزيارة خطوات بعيدة على طريق إقامة شراكة استراتيجية، تستند إلى المنافع الاقتصادية للبلدين، مبرزة قيمة اقتصادية هي الأعلى، ومنطلقة من قناعة أن الشراكة مع الصين حجر زاوية في المشروع السعودي لتحقيق التحول الأكثر عمقاً في تنويع الاقتصاد، وإرساء ركائز الاقتصاد الحديث، ولا سيما تعزيز اقتصاد المعرفة، على طريق وصول «رؤية 2030» إلى أهدافها. إنها مرحلة المواءمة بين الرؤية السعودية و«طريق الحرير» التي ستجعل من الصين جارة لكل البلدان والشعوب.
المحادثات بين بن الملك سلمان والرئيس جينبينغ ناقشت كل شيء، استناداً إلى أسس متينة من التنسيق والتعاون السياسي، مما جعل محاولات بعض الأطراف الدولية التضييق على المملكة غير ذات جدوى، وربما تنقلب النتيجة على هذه الأطراف، فالصين اليوم قلب العالم، والسعودية هي قلب المنطقة. نعم، كانت هناك مناقشات للحرب في اليمن، وسواها من قضايا الشرق الأوسط، المنطقة التي أشعل النار فيها طموحات حكام طهران بالسيطرة، ويتابعون قيادة أكبر مشروع دمار أين منه ما حمله هولاكو إلى الشرق العربي؛ واحدٌ أغرق دجلة بكتب مكتبات بغداد، والثاني أتى على الحجر واقتلع البشر، ويتابع بحقدٍ غير مسبوق أكبر عملية تغيير ديموغرافي!!
«اطلب العلم ولو في الصين»، لكن بعد اليوم سيكون تعلم الصينية أمراً متاحاً في السعودية، بعد إقرار خطة لإدراج اللغة الصينية كمقرر دراسي في جميع المراحل التعليمية في المدارس والجامعات. قوبل القرار بصخب إيجابي على وسائل التواصل الاجتماعي، عكس اهتمام الفئات الشابة ومواكبتهم هذا التطور، بوصفه جزءاً من نهج يريد تحقيق شراكة استراتيجية شاملة، ويسعى لتمتين منحى زيادة وتعميق الروابط الاقتصادية والثقافية مع الصين، لتعميق التنوع الثقافي وفتح آفاق جديدة وإقامة جسر للقاء مع الشرق على «طريق الحرير» إلى المستقبل.