طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

مات من الفرحة

هناك من يموت من الحزن وآخر من الفرح، وهناك من يموت من التخمة وآخر من الشُح، شاهدنا أحد مجانين الكرة يتوقف قلبه في اللحظة التي تدخل فيها الكرة مرمى الفريق الذي يشجعه، بينما أصيب الثاني بالسكتة القلبية وهو يهلل فرحاً عندما رأى الكرة تحتضن شباك الخصم، لم يتحمل الأول الهزيمة ولا الثاني الانتصار.
الجرعة الزائدة عن الاحتمال هي الطريق لنهاية رحلة الحياة، هل تتذكرون فيلم «وداعاً شاوشانك» سجين أمضى 50 عاماً داخل الجدران، صارت تلك القضبان هي خريطة عالمه، وأصبح السجّان هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد مساره ومصيره، يخرج للحياة فيخنق نفسه، لأنه لم يستطع أن يتنفس أكسجين الحرية، ربما ليست هي بالضبط حكاية أقدم سجين مصري، والذي أصبح أيضاً أشهر مفرج عنه مصري، إنه كمال ثابت والذي اقترب من خمسة عقود مقيد الحركة داخل السجن، عاش فقط نحو عشرين عاماً قبل إيداعه السجن، وأدين في جرائم قتل وشروع في قتل، ومع الزمن توفر الشرط القانوني وحصل على العفو الرئاسي، ومن بعدها وكالعادة صار وجهاً مألوفاً للفضائيات ليروي للناس حكايته، تسامح معه المجتمع، بعدما نال عقاباً مضاعفاً، لم يمض سوى 60 يوماً فقط، وقرأنا خبر رحيله، مات في ذروة الحرية وعز الفرحة، كان يترقب الذهاب ليلاً لكي يخطب سيدة، يحقق من خلالها أمله في الزواج والإنجاب، مات صباحاً كما ذكر الخبر الذي كتبه الزميل عبد الفتاح فرج على صفحات «الشرق الأوسط». وصل إلى نهايات العقد السابع من عمره ولم يبقَ له الكثير، بينما أحلامه تجاوزت رصيده من الزمن.
كان يمضي الأيام الأخيرة كما وصفه المقربون وكأنه يلتهم رحيق الحياة، يأكل كثيراً، يُدخن كثيراً، يضحك كثيراً، من المؤكد أن تلك الأيام المعدودة، لم تتِح له التكيف مع طقوس الحرية، لقد فعلها بطل فيلم «وداعاً شاوشانك»، عندما فتحوا عليه باب غرفته فوجدوه وقد اختار الموت شنقاً، بينما بطل حكايتنا لم يستطع قلبه التعايش مع كل هذا النهم في عشق الحياة.
الإنسان يألف في العادة كل التفاصيل التي تبدو في البداية معاكسة للطبيعة، إلا أنه يتعايش معها، ومع مرور الزمن يُصبح ما نراه عبئاً أو مأزِقاً، يمثل بالنسبة له أسلوب حياة، العذاب الذي نراه عندما نُطل من بعيد على الصورة، نكتشف عند الاقتراب أنه أبداً لا يشعر به، هناك ما يعرف بترافق الحواس، من الممكن أن تستعيض مثلاً عن الرؤية برهافة حاسة السمع، فترسم صورة من خلال صوت لمن يتحدث إليك، البعض بحاسة اللمس يتمكن تحديد اللون، وقد تعيش الحرية في خيالك وأنت مقيد اليدين والقدمين.
حكى كل من الموسيقارين الكبيرين سيد مكاوي، وعمار الشريعي في أكثر من حوار عن عمليات نصحهم بها البعض لإعادة الإبصار، إلا أن كلاً منهما لم يجد بداخله رغبة حقيقية لتغيير نمط حياته، كما أن كلاً منهما صار لديه صورة للأصدقاء والأحباء ولا يريد أن يقارنها بالحقيقة التي سيكتشفها قطعاً لو أبصر، كل منا يعتقد أن الأصم يتوق للسمع، والأبكم للنطق، والكفيف للرؤية، إلا أنها ليست بالضرورة هي الحقيقة المطلقة.
تنفس كمال ثابت هواء الحرية وانتعشت أحلامه، ثم مات عندما احتضن أحلامه، مات قبل ساعات قليلة من إعلان خطبته، مات من الفرحة!