اعتذر الإعلامي اللامع. قال: «لقد تورطت بالفعل. اعتمدت على معلومات ثبت لاحقاً أنها خاطئة، ولأن تلك المعلومات تخدم وجهة نظري، فقد قدمتها إلى الجمهور باعتبارها حقائق، وبنيت عليها تحليلاً واستنتاجات، خلصت في نهايتها إلى دعم الموقف الذي أتبناه والرأي الذي أعتنقه، وها أنا أعتذر بعدما تكشفت الوقائع... ولكن، أليس من حقي أن أتبنى رأياً، وأن أنصر طرفاً؟ أنا أحب أن يكون رأيي مقاتلاً».
تململ رئيس تحرير مطبوعة عربية شهيرة، وتحدث بحماس وشغف: «لا يجب أن نجلد أنفسنا، نحن نعمل في مهنة صعبة، وفي أجواء معقدة. نحن نخطئ أحياناً، ولكن وسائل الإعلام العالمية الكبرى تخطئ أيضاً! انظروا إلى تغطية وسائل الإعلام الأميركية لحرب فيتنام، وتغطية وسائل الإعلام البريطانية لحرب فوكلاند، وتلك التغطيات المسيئة لوقائع ما جرى في بلداننا منذ اندلاع الانتفاضات.
الإعلام الغربي ليس منصفاً أو مهنياً كما يعتقد البعض، وهناك مئات الأخطاء الكبيرة والصغيرة التي ترتكبها وسائله كل يوم».
أخذ مدير الشبكة الإخبارية العربية المرموقة طرف الخيط، وقال بلا مواربة: «يا زملائي الأعزاء الإعلام تابع للسياسة. نحن نعمل في مؤسسات تملكها دول أو رجال أعمال يعملون ضمن سياق سياسي واقتصادي واجتماعي محدد. لا يمكن فصل ما نفعله عن السياسة».
رد مدير شبكة تلفزيونية إقليمية نافذة: «هذا صحيح. لكن يجب أن ندرك أن جزءاً كبيراً من المشكلات التي ينطوي عليها أداؤنا يعود إلينا نحن الصحافيين والإعلاميين. أحياناً نُضيق الهوامش، ونُخفض الأسقف، ونتبارى في التأييد المفرط غير المدروس. لو أن هؤلاء القائمين على إدارة شؤون مؤسساتنا الإعلامية مكتملون مهنياً ومعتدّون إنسانياً، لأمكنهم خدمة الخط السياسي المطلوب، من دون إفراط ولا تفريط. يمكننا أن نحترم السياسة التحريرية وأن نحافظ على الحد الأدنى اللازم من المهنية في آن».
ومن موقف المدافع، جاء صوت المديرة التنفيذية لإحدى وسائل الإعلام العالمية المرموقة في منطقتنا: «نحن نعمل في أجواء صعبة. نحصل على التصاريح بصعوبة. قصصنا تكون مفتوحة، في انتظار رأي رسمي. لكن هذا الرأي يتأخر أحياناً، أو يأتي ملتبساً غير واضح، أو يغيب تماماً، لم يوجهنا أحد إلى التركيز على القصص السلبية، لكن ثمة قاعدة نعرفها كإعلاميين... الأخبار السيئة جيدة. أليس كذلك؟».
لم تنزعج مسؤولة الاتصال الحكومي، التي حرصت على أن تكون موضوعية، وأن تترك المجال رحباً متاحاً لأصحاب الشأن، لكنها تساءلت ببراءة: «لماذا عندما نحصي الأخبار المنشورة عن أدائنا العمومي في الخدمات الإخبارية العالمية البارزة، نجد النسبة الكبرى للأخبار السلبية، بينما ندرك، ويدرك المنصفون، أن الأخبار الإيجابية أضعاف السلبية؟ هل هذا منصف؟».
كانت تلك مقتطفات من وقائع ما جرى في جلسة إعلامية، حرص القائمون على تنظيم القمة العالمية السابعة للحكومات، التي انعقدت في دبي في الفترة من 10 إلى 12 فبراير (شباط) الجاري، أن تكون مغلقة، وأن تتاح الفرص كاملة للمشاركين فيها كافة للتعبير عن آرائهم بكل حرية ووضوح، وصولاً إلى توصيات محددة، يمكن أن تخدم الإعلام العربي والدولي في آن، وتزيل العراقيل والمشكلات، التي تعيق وجود تغطية إعلامية منفتحة ومسؤولة للوقائع التي تجري في منطقتنا.
كانت فعاليات القمة العالمية السابعة للحكومات قوية ومركزة؛ إذ اجتمع فيها 4000 مشارك، بينهم رؤساء دول وحكومات وقادة وخبراء ومديرو شركات كبرى ورواد ومبدعون، من أكثر من 140 دولة، وقد ناقشوا عدداً من الموضوعات والمبادرات ذات الصلة بالمستقبل، وكان «بيان مهمة» القمة الرئيس شديد التركيز على فكرة «تسخير الإبداع والابتكار وتحفيزهما من أجل تحسين الأداء الحكومي، وصولاً إلى إدراك السعادة للمواطن والمقيم الفرد».
تلك قضية لا يمكن أن يغيب عنها الإعلام، وهو الأمر الذي أدركه القائمون على القمة، وبينما أفسحوا مجالاً مناسباً لمناقشة علنية لقضايا إعلامية حيوية وملحة، رأوا أنه من المناسب أن تنعقد جلسة إعلامية تحت عنوان «واقع الإعلام العربي وآفاقه» بعيداً عن متابعة وسائل الإعلام ومشاركات الجمهور.
شارك في هذه الجلسة المغلقة عدد من أهم رؤساء الشبكات العربية التلفزيونية، ورؤساء تحرير صحف نافذة، ومديري خدمات إخبارية غربية مرموقة، وخبراء وكُتاب. وجرى الحديث بلا تحفظ أو مواربة، فتركز حول قضايا الحياد، والمهنية، والأداء الإعلامي الغربي، وعلاقة المِلكية بالإدارة في وسائل الإعلام، وقد أحسن المنظمون صنعاً أن جعلوا الجلسة مغلقة؛ إذ منح هذا الحاضرين الفرصة للتعبير بلا حساسية أو حسابات. وقد أمكن لكاتب هذه السطور أن يدلي برأيه في ما ذهب إليه عدد من المتحدثين؛ ومن ذلك، أنه يصعب جداً أن يكون الصحافي «مقاتلاً»... حتى لو كان هذا قتالاً بالرأي، لأن الحياد، وهو «الوقوف على مسافة واحدة من أطراف الحدث في أثناء نقله للجمهور»، معطى ضروري لإدراك الموضوعية، التي هي في جوهرها فصلٌ للذاتي عن الموضوعي.
يجب ألا يقاتل الصحافيون في الأخبار، ومهمتهم مقتصرة على نقل الوقائع بأقصى درجة ممكنة من الدقة والتوازن والحياد، لأن في ذلك انتصاراً للحقيقة التي يدّعي الجميع أنه يريد الوصول إليها، وإنصافاً للمُحق الذي يدّعي الجميع الوقوف بجانبه.
الإعلام الغربي يخطئ بكل تأكيد، لأن هناك أكثر من عشرة أسباب تدفع الصحافيين، مهما كانوا مهنيين، إلى الوقوع في الخطأ؛ ومنها نقص المعلومات، والقيم الاجتماعية والثقافية السائدة، واشتراطات الأمن القومي، وضغوط جماعات المصالح، وتأثير الملكية، وغيرها. لكن السؤال يجب أن يكون نسبياً بقدر نسبية الحقائق التي ننقلها إلى الجمهور، وينبغي أن يصاغ على هذا النحو: إلى من يلجأ الجمهور في بلادنا من بين وسائل الإعلام في أجواء الغموض والخطر وعند اتخاذ القرار؟ ولماذا يلجأ إلى تلك الوسائل بالذات؟ وأي وسيلة استطاعت أن تنقل الحدث بأقل قدر من الخطأ والانحياز؟
يتعلق الأمر بالثقة النسبية بأداء وسائل الإعلام. فالجمهور عندما يريد معرفة الحقائق لاتخاذ القرارات الأقل خطلاً وتكوين الأفكار الأقرب للسلامة؛ فإنه يلجأ إلى وسيلة إعلام ترتكب أخطاء أقل، وتخضع لضغوط أقل، وتخبر بكمٍّ أكبر من الحقائق.
فهل باتت وسائلنا الإعلامية الكبيرة والصغيرة، الخاصة والحكومية، ملجأ للقطاعات الأكبر من جمهورنا، في أوقات الغموض والخطر وعند اتخاذ القرارات؟ هل حصلت على القدر المناسب من الثقة؟
تستثمر الدول والحكومات وقطاعات الأعمال في وسائل الإعلام، بعضها يبغي الربح، وأغلبها يركز على «الاعتماد»... أي أن تحظى بثقة الجمهور واعتماده، لكي يتزود بالأخبار ومواد الترفيه منها. وعندما تغيب الثقة أو تتراجع، فإن هذا الجمهور يلجأ إلى وسيلة أخرى، قد تكون أجنبية، وقد تكون معادية، بحثاً عمّا يريده... تغطية متوازنة مهنية موضوعية تحظى بثقته. يعمل الإعلام ضمن مربع يمكن تسميته «مربع الممارسة الإعلامية»، وأركانه أربعة؛ أولها اعتبارات الدولة، وثانيها اعتبارات المالك، وثالثها اعتبارات السوق، ورابعها الاعتبارات المهنية.
في منطقتنا صار هذا المربع مثلثاً؛ إذ باتت الدولة تمتلك معظم الإعلام أو تسيطر عليه، وتراجع الاهتمام بالاعتبارات المهنية لمصلحة اعتبارات السوق.
في الغرب، الوضع مختلف. الدولة تمتلك، والقطاع الخاص، وأصحاب المصالح التي تكون متضاربة أحياناً. هنا ينشأ التعدد والتنوع ويُصان. والتعدد يُقوِّم الانحياز، وهو الأمر الذي نفقده شيئاً فشيئاً.
أوغلت وسائل إعلام غربية في الخطل عند تغطية حدث فيتنام، لكن كانت هناك صحيفة فجَّرت قضية يعرف كثيرون أنها كانت ضمن أسباب قرار الانسحاب الأميركي من تلك الحرب.
ولأن هناك رغبة في توصيات جدية تخرج من جلسة إعلامية مغلقة؛ فإنها يمكن أن تكون إتاحة القدر المناسب من التعدد والتنوع، وإعادة الاعتبار للاعتبارات المهنية، وعدم القتال بالأخبار، لأن ذلك سيعزز الثقة بإعلامنا العربي، التي هي سبب وجوده، ومناط استدامته وازدهاره.
7:57 دقيقة
«قمة الحكومات»... وقائع جلسة إعلامية مغلقة
https://aawsat.com/home/article/1606456/%C2%AB%D9%82%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA%C2%BB-%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%B9-%D8%AC%D9%84%D8%B3%D8%A9-%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%BA%D9%84%D9%82%D8%A9
«قمة الحكومات»... وقائع جلسة إعلامية مغلقة
شارك بها أعلام المهنة في الوطن العربي همومهم وأهدافهم المستقبلية
«قمة الحكومات»... وقائع جلسة إعلامية مغلقة
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة