يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

ثلاثية الاستدامة السياسية: الاتجاه شرقاً

عادة ما توصف السياسة السعودية من قبل الخبراء والمعلقين السياسيين بـ«المفاجئة»، وهو الحال الذي يتم تكراره والزيادة عليه سلباً أو إيجاباً مع كل حراك سعودي على مستوى السياسة الخارجية، وكان آخرها الجولة الآسيوية لولي العهد الأضخم على مستوى التمثيل والصفقات والتداول السياسي.
وصف المفاجئة هو معادل في القراءة السياسية لردة الفعل، وليس قراءة الفعل ذاته في سياقه ومساره الذي تفرضه المتغيرات الجيوسياسية والتي عادة ما تكون متحولة ومتغيرة، بينما تظل قراءات ردة الفعل مرتبطة بالصورة النمطية سواء عن السعودية، وهي ليست بالضرورة صورة سلبية أو إيجابية قدر أنها رسم إطار مفاهيمي عن السياسة السعودية ضمن أطر محددة، لكنها باتت اليوم قراءات رغبوية ومؤدلجة بعد أن انتقلت القيادة السعودية الشابة من مربع ردة الفعل لخصومها إلى الاستباقية السياسية وصناعة الفعل السياسي بشكل متسارع سواء على مستوى الداخل أو السياسة الخارجية، وهذه الفعالية السعودية المتحركة لا يمكن النظر إليها ضمن سياق قضايا محددة والحكم عليها قدر أنها بحاجة إلى رسم مسار كلي مبني على فهم طبيعة التحديات في الخليج اليوم والتي فرضت معالجات مختلفة، فالخليج المستقر سياسياً، والحيوي باقتصاداته وفرص أسواقه الهائلة، محاط بحزام من الأزمات الأمنية والاقتصادية ومشاريع منافسة ومضادة، كالمشروع الإيراني الطائفي التقويضي، ومشروع تركيا التي تطمح لاستعادة دورها الإقليمي عبر التحالف المضطرب مع الغرب ومناوئيه، وهذان المشروعان يتوسلان شعارات دينية وسياسية واقتصادية، وبإزائهما تذبذب مصالح وأهواء الدول الغربية الكبرى في محاولة الاستفادة من هذا الصراع البارد على مفهوم السيادة والشرعية وحتى الحرب على الإرهاب من خلال اللعب بكروت سياسية وحقوقية، وهو ما يعني قلقاً في مفهوم متجذر في السياسة والاقتصاد وهو «الاستدامة».
الاتجاه شرقاً حالة بناء على السابق وليست نقضاً له، فالسعودية الجديدة أكثر وعياً بأهمية تموقع العالم الغربي تتقدمه الولايات المتحدة، كما هو الحال في الدول الأكثر تأثيراً في الشرق الصين التي أيضاً تحاول اللعب على مسألة الاستدامة الاقتصادية وعدم استفزاز القوى الغربية في المسألة السياسية سواء في التدخلات الخارجية أو القضايا الكبرى وعلى رأسها الحرب على الإرهاب والدخول المباشر في مناطق التوتر والاضطرابات أو حتى على مستوى التحالفات المعلنة مع إيران وروسيا... الخ.
الاتجاه شرقاً ليس مغامرة سياسية أو محاولة لتلميع الصورة كما يخبرنا تجار الأزمات أو على أقل تقدير الطامحون لإبقاء السعودية الجديدة ضمن «الإطار» والصورة النمطية، بل هو محاولة لخلق فرصة جديدة للاستدامة السياسية عبر أهم مفاعليها، وهو خلق فرص اقتصادية هائلة وتحقيق دولة الرفاه، وهو ما يعني للسعوديين قيادةً وشعباً الحفاظ على «فضيلة الاستقرار»، ويمكن قراءة محطات الاستدامة عبر ثلاثية دشنتها زيارة ولي العهد تتمثل في رعاية البعد الإقليمي للسعودية كقلب للعالم الإسلامي عبر زيارة باكستان وتجديد تحالفها التاريخي واستدامته، والقدرة على خلق حوار حضاري مع الهند والصين قائم على التنوع مع التمسك بضرورة حفظ الأقليات الدينية وفق أطر المؤسسات الدولية وليس على طريقة التشغيب السياسي.
البعد الثاني في ثلاثية الاستدامة، وهو الأهم، خلق فرص جديدة وأسواق ناشئة تدعم رؤية المملكة بعيداً عن النظر إليها كممول نفطي للعالم إلى محطة لخلق فرص استثمارية بديلة عبر إنشاء ممرات آمنة لاستثمارات طويلة الأجل، وهنا يجب أن نتذكر أن الاستثمار في دولة كباكستان بـ20 مليار دولار هو جزء من تدعيم أيضاً التحالف الباكستاني الصيني والمشروع الخلاق ممر الاقتصاد (CPEC)، وهو ما يقال أيضاً عن الصعود الهندي العملاق القادم على مستوى طلبات المشتقات النفطية وبالمقابل تقديم الخبرات في الصناعات التكنولوجية التي يمكن أن تقدم بدائل بجودة عالية وتكلفة أقل.
والبعد الثالث إعادة ترسيخ تحالفات سياسية مستدامة قائمة على الفهم المشترك لطبيعة التحديات وأهمية الاستقرار والاستثمار في الأمن والصناعات العسكرية ورعاية الاختلاف في المواقف السياسية دون إملاءات براغماتية متحيّزة تمرر لدولة كإيران التدخل العسكري وبناء ميليشيات ودول داخل الدول المستقرة، بينما تحاول استثمار أي حدث سياسي يخص السعودية التي لا تدعي الكمال أو تتنصل من أخطاء أو تنزعج من الاختلاف السياسي الذي لا يمس السيادة.
الزيارة هي تأسيس لطريق حرير حديث تلعب السعودية فيه دور المحور وبطريقة تبادلية قائمة على خلق الفرص والاستثمارات وليس مجرد تسويق السلع الأساسية، وهو ما يفسر الوفد المرافق لولي العهد والذي تجاوز 1200 من الخبراء ورجال الأعمال.
السعودية اليوم خارج الإطار والصورة النمطية عبر صناعة الفعل دون انتظار أو اكتراث لردود الفعل والأخبار المزيفة وصناعة البروباغندا والشائعات السياسية التي بات تخصص الدول التي تقف متفرجة على هذا الحراك المفاجئ على نحو يستحق التوقف عنده.