الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

التصدّع عميق وصلاحية روحاني وظر يف انتهت

مثل حجر أُلقي في مياه راكدة، جاءت استقالة محمد جواد ظريف لتحرّك بحيرة السياسة الإيرانية المتجمدة. صحيح أن الرجل عاد عنها أو أُرغم على ذلك، لكن الصحيح كذلك أن استقالته كشفت على السطح ما كان الإيرانيون يحاولون إيهام العالم بأنه من فبركة «المؤامرات الغربية» على الثورة الإيرانية. لقد أكدت استقالة ظريف لمن كانوا بحاجة إلى ذلك مَن هو صاحب السلطة الفعلية في هذا البلد الذي يفاخر بأنه يجري انتخابات دورية، ويعقد جلسات نيابية وحكومية، غير أن الواقع في نهاية المطاف أن القرار هو في يد مجموعات أو أشخاص تكمن قوتهم الحقيقية في قربهم واختيارهم من قبل «مرشد» الثورة علي خامنئي. والحديث هنا هو بالطبع عن «الحرس الثوري»، وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني.
في ظلّ هذا الوضع الاستثنائي لم يكن غريباً أن يتم استبعاد رئيس إيران ووزير خارجيته عن لقاء بشار الأسد مع علي خامنئي، وبحضور قاسم سليماني. بل كان هذا هو الأمر الطبيعي، فسليماني هو ولي نعمة الأسد، والمظلَّة التي حمته من شعبه، وسمحت ببقائه في السلطة. وبالتالي فإذا كان هناك ما يجب أن يسمعه الأسد من أولياء نعمته في طهران، فالأفضل ألا يكون ذلك في حضور المتهمين بالعمالة للغرب، من الذين شككوا في ضرورة التدخل الإيراني في سوريا وغيرها من الدول، والذين قادوا مفاوضات الاتفاق النووي، ويتم اليوم تحميلهم مسؤولية فشلها ومسؤولية الصعوبات التي تواجهها إيران، بعد انسحاب دونالد ترمب من الاتفاق. والأرجح أنه لولا اللقاء البروتوكولي الذي لم يكن ممكناً تجاوزه بين روحاني والأسد، لتمّ أيضاً تغييب الرئيس الإيراني عن كل المحادثات مع رئيس النظام السوري.
يمكن أن يقرأ المرء في الكلمات التي كتبها ظريف في رسالة الاستقالة، والتي كانت أشبه بانتفاضة من جانب الوزير لكرامته الشخصية والمعنوية، تحليلاً سيبقى برسم مَن سيكتبون تاريخ هذه المرحلة التي تمر بها إيران. ففي إشارة إلى الدور الهامشي الذي تلعبه وزارة الخارجية في ظل نفوذ قاسم سليماني، قال ظريف إنه يأمل أن تشكل استقالته «تنبيهاً لعودة وزارة الخارجية إلى مكانتها القانونية في العلاقات الخارجية».
وفي مقابلة مع صحيفة «جمهوري إسلامي» نشرتها بعد يوم من إعلان ظريف عن استقالته، قال الوزير إن الصراع بين الأحزاب والفصائل في إيران هو مثل «السمّ القاتل» على السياسة الخارجية. وأضاف: «يتعين علينا أن نبعد سياستنا الخارجية عن صراع الأحزاب والفصائل». وأضاف، في المقابلة نفسها، موجهاً كلامه إلى خصومه في الداخل: لماذا تنددون برئيس الشعب المنتخب وبالسياسة الخارجية بدلاً من التنديد بترمب؟ أي نتيجة ستنجم عن هذا؟ النتيجة هي أن الشعب سيفقد الأمل في المستقبل.
غير أن هذه الصراعات ليست جديدة في النزاع التقليدي على الصلاحيات ومواقع النفوذ منذ قيام الثورة الإيرانية قبل أربعين سنة، التي التهمت في الطريق كثيرين ممن شاركوا في قيامها ودافعوا عنها منذ بداياتها. مع ذلك، فإن توقيتها اليوم بالغ الأهمية في مرحلة تخوض فيها إيران معركة صعبة مع إدارة دونالد ترمب، بعدما اعتقد المسؤولون فيها أنها حققت كسباً تاريخياً في عهد باراك أوباما، الذي استطاعت استمالته إلى جانبها، من خلال الاتفاق النووي الذي ترك يد طهران طليقة للتدخل في شؤون المنطقة العربية، وفرض قرارها على سياسات عدد من دولها.
في هذه المرحلة الجديدة من العلاقات الإيرانية - الأميركية يصبح من الطبيعي أن السياسيين الإيرانيين الذين رافقوا المرحلة السابقة فقدوا صلاحيتهم الآن، وفي طليعة هؤلاء حسن روحاني وجواد ظريف اللذان كانا عرّابَي تلك المرحلة وراهنا عليها لتعزيز نفوذهما وجناحهما «المعتدل» في الداخل على حساب الأكثر تشدداً من قادة «الحرس الثوري». تلك المرحلة انتهت الآن، وصار بديهياً أن ينتهي رجالها معها. فهؤلاء الرجال كانوا مجرد «ديكور» كانت إيران في حاجة إليه لتلميع صورتها، من خلال خِفّة ظل حسن روحاني وابتسامات جواد ظريف. أما الآن وقد انتهت تلك الوظيفة، فقد صار سقوط رجال المرحلة أمراً طبيعياً.
من هنا لا تغيِّر شيئاً عودة ظريف عن استقالته، أو إعادته عنها. فالقناعة السائدة في طهران اليوم أن الولايات المتحدة تسعى إلى تغيير النظام الإيراني بعد انسحابها من الاتفاق النووي. وترافق هذه القناعة قناعة أخرى بفشل السياسات السابقة وفشل من كانوا وراءها ومن دافعوا عن الانفتاح والحوار مع الغرب. لذلك تشتد قوة الجناح المتشدد حيال العلاقات مع الدول الغربية، وتعود الأصوات التي كانت توجِّه الاتهامات لروحاني وظريف بالعمالة لهذه الدول خلال المفاوضات، ومن ذلك ما نُقِل عن لسان أحد القادة السابقين في «الحرس الثوري»، قبل أسابيع، من أن «ظريف يجب أن يذهب إلى الجحيم، وأن الإيرانيين سيبصقون على وجه كل من دعم الاتفاق النووي».
بالطبع سنشهد الآن محاولات لإعادة تعويم صورة الرئيس الإيراني ووزير خارجيته. سنسمع أصواتاً تؤكد دعم الرجلين، كما سمعنا من قاسم سليماني الذي صرح بعد عودة وزير الخارجية عن الاستقالة بأن ظريف هو المسؤول الرئيسي عن السياسة الخارجية، وأنه «يحظى بتأييد المسؤولين في النظام، خصوصاً قائد الثورة». لكن هذه التصريحات لا تغير حقيقة مراكز القوة التي تفرض نفسها في طهران. إنها مجرد محاولات لتغطية الخلافات وإعادة إنتاج الأوهام القائلة بتوحُّد قادة النظام حول أهداف الثورة.
لكن الحقيقة أن الصراع بين نهجين في التعامل مع الخارج يتكرس الآن ويتعمق: نهج يدعو إلى أن حماية مصالح إيران تقوم على الانفتاح وكسب الأصدقاء بمعزل عن الآيديولوجيا المغلقة التي قيل إنها تحمي مكتسبات الثورة. والنهج الآخر الذي يدعو إلى المواجهة المفتوحة، والذي يعبر عنه خامنئي ومستشاره علي أكبر ولايتي. هذا النهج يعتبر أنه لا يوجد فرق بين أميركا والأوروبيين. فهو يرى أن مواقف الغربيين لا تختلف فيما بينها في عدائها لإيران.