علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

المسيحية بين نسخة مولانا محمد علي الأصلية ونسختها المنقحة عند سيد قطب

من وجه آخر تلاعب مولانا محمد علي في كتابه «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، في النص الذي اقتبسه من كتاب ج. ه. دينسون «العواطف كأساس للحضارة» لخدمة أقواله الخاصة عن الإسلام والمسيحية والحضارة، بحيث يعتقد القارئ أن ج. ه. دينسون يشاركه فيها. وكان أول المضللين وأهمهم من قرّاء كتابه المترجم إلى العربية في العالم الإسلامي سيد قطب الذي استنسخ أفكاراً عدة من هذا الكتاب في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وأوهم قارئ كتابه بأنه لم يستفد من كتاب مولانا محمد علي سوى النص المقتبس من كتاب ج. ه. دينسون!!
تحدَّث مولانا محمد علي في كتابه عن المسيحية بوصفها ديناً فاشلاً وعقيماً من الناحية الروحية المادية، وديناً منفّراً من الناحية العقلية، فلقد جردها بصلفٍ من أية ميزة وفضل وحسنة قد تُذكر. ولكي يمرر ازدراءه للمسيحية لها عند القارئ المسلم ساقه على أنه موجَّه لمسيحية الكنيسة، وليس لمسيحية النبي عيسى.
لم يحدد مولانا محمد علي فترة زمنية أصبحت فيها هذه الديانة على هذا النحو الشائن والبائس الذي ادَّعاه: هل كانت هذه الفترة إبان نشأتها الأولى في الشرق الأدنى أم مع هجرتها إلى الغرب، أم مع تحوّلها إلى دين الدولة الرومانية الرسمي، أم مع عصر النهضة، أم مع عصر الثورات المتتابعة والمتنوعة التي شهدتها أوروبا، والتي يمكن إجمال تسميتها بالثورات الحداثية؟
ولأنه لم يحدد فترة زمنية ما، فإن هجومه العنيف وتهجماته الضارية على المسيحية تشمل مطلق تاريخها في الشرق وفي الغرب مع استثناء سنوات قليلة، وهي السنوات التي بشَّر فيها عيسى بن مريم بدعوته الدينية.
وأرى أنه ركّز على تاريخها في الغرب، وأهمل تاريخها في الشرق الأدنى، وتحديداً في بعض البلدان العربية، لأن المسيحية في الغرب كانت مسيحية دول، بينما في العالم العربي كانت مسيحية أقليات. ولأن الغرب الذين يدين بالديانة المسيحية متقدّم وقوة عظمى، ولأن الشرق الإسلامي (بما فيه أقلياته المسيحية) كان متخلفاً ومجالاً فسيحاً لبسط نفوذ القوى الاستعمارية الغربية.
تركيز مولانا هجومه على تاريخ المسيحية في الغرب منذ أن بدأ هذا التاريخ إلى سنة عمله على كتابه، وإهمال تاريخها في منطقة الشام وفي مصر، ساعد سيد قطب في أن يتبنى فكرته ورأيه في المسيحية، وفي المسيحية الغربية، ويفصّل فيهما مع التشذيب والتهذيب، ذلك لأن مولانا محمد علي قدَّم فكرته ورأيه فيهما بخشونة وفظاظة وفجاجة. وقد يخفى على البعض أن ما هو ميسَّر لمولانا محمد علي أن يقوله في المسيحية بتعصّب وغلو ديني، كان عسيراً على سيد قطب أن يقوله في السنوات التي اشتغل فيها على كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام». وهذا ما سأشرحه في المقال المقبل.
قال مولانا محمد علي، كما مر بنا في مقال سابق: «إن فشل المسيحية في اشتعال نور الإيمان في القلوب ليقف حائلاً دون تقدم المادية، يرجع إلى سببين: السبب الأول هو أن المسيحية - مسيحية الكنيسة لا المسيحية السمحة التي جاء بها عيسى عليه السلام - قد شُوهت ولُقنت بطريقة نفّرت العقل البشري منها... والسبب الثاني من أسباب فشل المسيحية هو أنها لا تُعنى إلا بسلام الروح في عالم الآخرة، وأنها ليست نظاماً أو تشريعاً له اتصال بهذه الحياة الدنيا، ولم تُعن في هذه الناحية بغير الأمور الدينية التافهة»!
ثم أتى سيد قطب، وقال في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»: «والمسيح عليه السلام إنما جاء داعية للصفاء الروحي والرحمة واللين والتسامح والعفة والزهد. ولم يشر إلا إشارات عارضة للنظم الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، بل كان يُلمح من تصرفاته وتصريحاته أنه لا يستريح إلى قيود التقاليد من الكهان اللاويين والكتبة، لأنها أعمال ظاهرية، وهو كان موكلاً بالبواطن والأرواح».
وأورد خمس آيات من الإصحاح الخامس - إنجيل متّى، تؤكد ما قاله عن أصل دعوة المسيح، ليخلص إلى أن المسيحية «تركت ما لقيصر وما لله لله، واتجهت بكليتها إلى التطهّر الروحي والتهذيب الوجداني، وصاغت نفسها على أساس أن الدين صلة ما بين العبد والرب، وأن القانون صلة بين الفرد والدولة». وأضاف معللاً: «إن هذا كان منطقياً مع نشأة المسيحية في كنف الإمبراطورية الرومانية، وعلى فترة من الديانة اليهودية».
هكذا قدّم سيد قطب فكرة ورأي مولانا محمد علي برفق وتلطيف وتشذيب وتهذيب، إلا أنه في طبعات لاحقة من الكتاب حذف كل هذا الكلام! ووصل ما قبل هذا الكلام المحذوف مع الفقرة التي تلته مع إضافة وتعديل في جملتها الأولى، فالجملة الأولى كما صاغها في أول طبعة من الكتاب كانت في الصيغة التالية: «ولقد بلغت المسيحية في التطهر الروحي، والتجرد المادي والسماحة الوجدانية (غاية ما بعدها غاية)».
وبعد الإضافة والتعديل صارت: «ولقد بلغت المسيحية (في بعض فتراتها مستوى عالياً) في التطهر الروحي...». في ختام هذه الفقرة كان قد قال في الطبعة الأولى في الجملة الأخيرة عن المسيحية: «وكانت بذلك منطقية مع نشأتها في بيئة خاصة، منطقية مع حاجة الأمة الإسرائيلية التي بعث لها عيسى وهي جزء صغير من كيان الدولة الرومانية الكبيرة، منطقية مع الفترة الموقوتة المعدة للمسيحية حتى يظهر الدين العالمي الجديد: دين الإسلام».
وفي الطبعات اللاحقة عدل في الجزء الأول من هذا المقتبس، وأضاف إليه، فقال: «وكانت بذلك منطقية مع (الصورة التي رسمتها الكنيسة للمسيحية) ومع نشأتها في بيئته خاصة، ومع حاجة الأمة الإسرائيلية (بصفة خاصة في تلك الفترة)».
ثم ينتقل سيد قطب في حديثه عن مسيرة المسيحية إلى وصولها إلى الغرب، فقال: «ثم شاء الله أن تعبر المسيحية البحار إلى أوروبا (بكل سماحتها وكل تطهرها وكل تجردها من عالم المادة). وهناك وجدت الرومان ورثة الحضارة الإغريقية المادية الوثنية، كما وجدت أقواماً في أنحاء أوروبا حديثي عهد بالبربرية، يتناحرون بجموعهم الكثيفة على رقعة من الأرض ضيقة، ذات طبيعة قاسية وعرة، ضنينة شحيحة، لا يملك مَن يعيش فيها أن يذوق طعم الراحة فترة، وأن يلقي سلاحه لحظة، ولا أن يركن في واقع الحياة إلى نظريات المسيحية (السمحة الموغلة في السماحة): مَن لطمك على خدك الأيمن...».
غيّر سيد قطب صياغة مفتتح هذا الاقتباس إلى الصيغة التالية: «ولما عبرت المسيحية في صورتها هذه البحر إلى أوروبا...»، وحذف الثناء على المسيحية الذي وضعته بين هلالين. وأبدل الجملة الأخيرة فيه إلى جملة أخرى، هي: «... إلى نظريات المسيحية وتعلقها بملكوت السماء، وانعزالها عن الحياة الأرضية الواقعية».
استمرّ سيد قطب بعد هذا الكلام الوارد في الاقتباس السابق في شرح وجهة نظره حول الكيفية التي استقبلت أوروبا بها الدين المسيحي، وكيف تم فصله عن الحياة في القرون الوسطى، فقال: «لقد رأى هؤلاء الأقوام أن الدين لا يصلح للحياة، فقالوا: إن الدين صلة ما بين العبد والرب. وأنه لا بأس عليهم أن يستظلّوا بظله في الكنيسة، وأن يستروحوا نسماته في الهيكل المقدس، وأن يواجهوا صراع الحياة بعد ذلك في المجتمع بتقاليدهم البربرية، وأن يدعوا السيف يقضي بحكمه في إبان الهمجية، ويدعوا القانون المدني يقضي بحكمه بعد أن تحضروا. فأما الدين فقد بقي في عزلته الوجدانية هناك في القلوب والضمائر، وفي الهيكل المقدس وكرسي الاعتراف». وفي الطبعات اللاحقة، أضاف إلى ختام هذا الفقرة علامة تعجب، وأضاف هذه الجملة: «ولم تتمثل المسيحية هناك قطّ في نظام يهيمن على الحياة كلها، ويربط ملكوت الأرض بملكوت السماء».
وهذه الجملة هي إعادة تأكيد لجملة ستأتي في السطور الأولى من الفقرة التي تلت الفقرة السابقة. هذه السطور هي: «ومن هنا كانت تلك العزلة بين الدين والدنيا في حياة الأوروبيين. بل كانت الحقيقة الواقعة التي تنطق بها طبائع الأشياء، وهي أن أوروبا لم تكن مسيحية قط في يوم من الأيام. وقد بقي الدين في عزلة عن تكييف الحياة وتنظيمها من يوم دخوله حتى الآن»!
هذه السطور كانت مقدمة لحديثه عن الفترة التاريخية التي نازعت الكنيسة ورجال الدين الملوك والأمراء على السلطة الزمنية، ثم وصلوا إلى وفاق فيما بينهم. ومما قاله عن هذه الفترة: «وجاءت عصور كان للكنيسة أملاك وجيوش وسلطان لا تقل عن أملاك الملوك وجيوشهم وسلطانهم. ووقع النزاع - كما لا بد أن يقع - بين الكنيسة والسلطان، بين البابوات والأباطرة، وكان الدهماء في الغالب في صف الكنيسة. ثم وقع الوفاق - كما لا بد أن يقع - بين هاتين السلطتين، لالتقاء مصلحتيهما في تسخير الجماهير، واستغلال الدهماء، ما دامت مصالح مادية واقتصادية في حقيقتها، وما دام النزاع في أصله على السلطة الزمنية. وكان هذا. وقيل: إن الدين مسخَّر لإخضاع الملايين لمستبدين ورجال الدين. (لأنه هكذا عند الأوروبيين!)». وللحديث بقية.