سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

حلم القصيبي

عندما زار الأديب غازي القصيبي بيت الشاعر إبراهيم العريض في البحرين، وكانت الشيخة مي آل خليفة قد اشترته ورممته عام 2006 وجعلته مشتهى للشعراء والذواقة لجمالية معماره وبما عرضت فيه من مقتنياته ومؤلفاته، التفت القصيبي صوب زوجته «سيكرت»، وقال لها: «بعد موتي لا بد أن تعطي رسائلي وصوري لمي، لتحفظها في بيت جميل مثل هذا». لم يمهل المرض الشاعر طويلاً. 4 سنوات بعدها كان قد غادر هذه الفانية، وبقيت عباراته المؤثرة ترنّ في أذن الشيخة مي إلى أن حققت له الأمنية بالرهافة التي كان يأملها.
وقبل أيام دشن بيت تراثيّ يقطر فناً، ويحتضن بعضاً من دفاتر الشاعر وحاجياته الحميمة، ويروي حكاية عمره في صور، ويُسمع زائره أجمل الأبيات التي كتبها في الحب، وعشق الوطن، ويروي تفاصيل العلاقة المتينة التي ربطته بالبحرين. وهو ينتظر الزوار الفضوليين، والأنشطة التي ستقام حوله وفيه، إحياء لذكرى الرجل ودوره في خدمة بلده، وروح العروبة التي بقيت تضخ شعره وكتاباته بالحماسة. «منامة القصيبي» هو اسم البيت الذي قدّمته عائلته، التي عرفت بسكناها في الحي، وأن لها منازل كثيرة هناك، في وحدة حل وترحال بين السعودية والبحرين؛ حيث تعلّم الراحل والتحق بالمدرسة إلى أن أتم دراسته الجامعية في القاهرة، ثم في أميركا ولندن. تسفار يفسّر روحه الانفتاحية التي جلبت له المتاعب، وجرته إلى معارك متوالية، يقول فيها: «أحس أن أيامي... صراع دونما غاية... ومعركة بلا راية... طواف حول دائرة من الأوهام، تبدأ كلما قلت انتهت».
بيت القصيبي ليس سوى حلقة في سلسلة، المنازل التراثية التي ناضلت الشيخة مي منذ عام 2002 إلى اليوم لتنتزعها من عدم كاد ينهيها. هي الحرب نفسها التي تتواجه فيها في كل مكان، قلة ضد تيار جامح يريد أن يستبدل بالقديم صيحات الحداثة الطارئة وغوايتها الكاسحة، ويستعيض عن الأحياء العتيقة بالأبراج الشاهقة والجادّات العريضة. لكن الفرق أن هذه السيدة وجدت الحل، ابتكرت لنفسها نهجاً اتبعته ونجحت، قررت أن طموحها لا تحده جدران ولا تكبحه اعتراضات. في البدء أرادت، وهي الباحثة في التاريخ والنابشة في مسار أسرتها وحكاية بلدها، أن تعيد لمجلس جدها الأديب الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة ألقه بعد أن هدم، فأعادت بناءه في موقعه على نمطه المعماري الأول، وجعلته مركزاً للثقافة والبحوث يحمل اسمه. من بعدها تمكنت من ترميم بيت مؤسس الصحافة في البحرين عبد الله الزايد، الذي عمره 100 سنة، وهذه المرة بدأت تهتدي إلى سبل غير التمويل الذاتي، ليصبح المشروع أكبر والإمكانات أقدر على تلبية الطموح. أقنعت البنوك والهيئات الأهلية، شركات التأمين، الأصدقاء في الكويت - ولم لا؟! - في السعودية والإمارات، بضرورة إنقاذ المباني المهددة، فهي ترى فيها ثروة خليجية تهم الجميع. عملها الجاد، إصرارها، سرعتها في التنفيذ، إتقانها، براعتها في اختيار الفريق الذي يعمل معها، ومن ثم عشقها للفن المعماري، وإخراجها للبيوت التي تتولاها كتحف فنية تنبجس في أزقة قديمة أعادت إليها النبض، جعل لمشروعها مصداقية تشجّع على الدعم.
بين مهمتها الرسمية رئيسة لهيئة الثقافة والآثار، ومهمتها الأهلية التي أخذتها على عاتقها، تستكمل مي ما لا تستطيعه هنا بما تقدر عليه هناك. في الصميم لا تفصل كثيراً بين ما تنجزه في منصبها الرسمي من متحف ومسرح ومعرض، وما تحققه كمواطنة ناشطة من إعادة الحياة إلى حارات بأكملها. الغاية واحدة والمشهد يتكامل مع الوقت. وحين تجد امرأة مؤمنة ببلدها الصغير إلى هذا الحد، ومتأكدة أنها قادرة على فعل ما تصبو إليه، رغم أن تأمين الإمكانات ليس دائماً متاحاً، تدرك أن المشكلة ليست في شح المال، كما نسمع حين تتوقف المشروعات وتتعطل الأحلام، بل في نقص المثابرة والعناد. «من يعطوننا يرون نتائج عملنا» تردد دائماً. وهي متأكدة أن إنقاذ مزيد من التحف المعمارية هي مسألة وقت، وأن لا شيء يمكن أن يفرمل حركتها. لكن إلى أين؟ ما هو الهدف النهائي؟ ثمة تصور رسمته في ذهنها. علاقتها الوطيدة وحواراتها الدائمة مع معماريين ماهرين، جعلتها قادرة على صوغ صورة متكاملة لما تريد أن ترى عليه مدينتها الأثيرة، بتفاصيلها الجمالية الدقيقة. هذا طريق اللؤلؤ الذي يمتد على مدى أكثر من 3 كيلومترات واعتمد موقعاً للتراث العالمي من قبل «اليونيسكو»، يمزج بين البيوت القديمة لصيادي اللؤلؤ والنمط المعماري الحديث من عمل المهندس السويسري فالريو أولجياتي. الأمر لم ينته هنا، لا بد من استجلاب البحر من جديد إلى هذه البقعة التي كانت مكاناً للصيادين على شاطئ البحر قبل أن تردم المدنية الماء وتبعده عن المكان. ثمة رغبة في جعل البحرين دولة تزار بهدف السياحة الثقافية، وليس فقط للترف والاسترخاء. يبدو لك أن هذا الشغف بروح الأمكنة، والحفاظ على الذاكرة يتم بمذاق أنثوي جارف. عشق البيوت، استعادة دفء المنازل، حب الحي، راحة الجيران، حين تتولاهم امرأة لها رؤية واضحة، لا بد أن يكون الثمر نضيجاً وشهياً.
منزل غازي القصيبي هو السابع والعشرون في سلسلة إحياء المنازل، والمشروع مستمر. ولا شيء يمكن أن يعبر عن هذه الحالة البحرينية التي ستكون أكثر من رائعة، لو تكررت في مدن عربية أخرى، بأيدي نساء طموحات وموهوبات، سوى قول جميل لابن عربي، رفعته السيدة شعاراً هذه الأيام: «كل مكان لا يؤنث لا يعوّل عليه».