فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

عالم يضج بالثرثرة

مَن يتتبع المنصات الاجتماعية، التي تدور بها الثرثرات، وتضخّ معها الشتائم، وتشنق بها الذوات، يتبدى له مستوى التنافس المحموم للسباق على التفاهات.
بات تأليف كتاب أسهل من قراءة كتاب. بلغت الذروة حين يشتكي الجهلة من انتشار الجهل، وحين يبدو الضحل كسيفاً من هشاشة الثقافة، حالة تعبّر عن ذروة انتشار التهريج والاستبسال من أجل الاستمرار بالكلام من دون كلل أو ملل.
إن منصات التواصل الاجتماعي «السوشيالية» عملية استئناف للتصويب؛ فهي، وإن دوّنت ضمن حروف وأسطر وطيّات، غير أنها تُنسب إلى الكلام، وذلك لسببين اثنين؛ أولاً: لأن المطروح بها أقرب إلى التصويت منه إلى الكتابة، بمعنى الصياغة. حتى أثناء قراءة التدوينات القصيرة، إنما تتخيل الصوت أكثر مما تأخذك الكلمة. ثانياً: تذكرت حواراً مع جيل دولوز حين علَّل رفضه للمشاركة في منصات السجال والنقاش العام بقوله: «الكتابة نظيفة، والكلام قذر». الكتابة يمكنها تحقيق نسبة من الضبط اللغوي، والإتقان الأسلوبي، والتسلسل الفكري، والاحتكام للمنهاج العلمي، أكثر من التصويت، وبالطبع تأتي منصات «السوشلة» ضمن ظاهرة التصويت، وتتطور إلى الصراخ والزعيق.
مع موجة الثرثرة تلك تبدو مبادرات رائعة تخفف من الشعور باليأس، هذه المرة في الكويت، حين نظّمت مكتبة «تكوين» فعاليات «ماراثون القراءة الخيري» بالاشتراك مع مؤسسات أخرى، الهدف منه مساعدة الطلبة المعسرين من أجل استكمال تعليمهم. ألف قارئ ساهموا بقراءة أكثر من خمسين ألف صفحة، بثينة العيسى مسؤولة مكتبة «تكوين» واكبت الحدث حينها بالأرقام.
القصّة أن القراءة بوصفها النشاط الأكثر حيويةً لتغذية الإنسان بالعلوم والمعارف لم تعد مجرد واجب يومي للتعليم المدرسي أو الهواية الذاتية، فالمطالعة يمكنها الإسهام بالقضايا الإنسانية، أو التوعية المجتمعية.
القراءة ممارسة وجودية، وانتقال بين الأزمان، وسفر إلى الأمم، ورحلة في العقول. إنها أعمُّ من المطالعة المعتادة، من خلالها يقوم الإنسان بعملية هدم وبناء مستمرَّة داخل الأرض اليباب في عقله الفسيح، يمكنها تحويل مجريات القناعات، وإشعال جذوة الأسئلة وإضرام نيران السؤال.
«إن السبيل إلى ذاتنا طويل جداً، ويمر عبر كائنات وعوالم قصية، ولكن المرء يتوصل، كما يحدث في أغلب الأحيان، إلى ذلك الفهم، متأخراً جداً»، يقول ذلك إرنستو ساباتو. والقراءة عملية رجوع دائم إلى الذات، فالنصوص هي المرايا، وكل قراءة هي خوض تجربة بمثابة واقعة مختلفة عن التي قبلها.
حاول ألبرتو مانغويل نحت وصفٍ للقارئ النموذج في كتابه «فن القراءة». يكتب ملاحظاته عن القارئ المثالي: «إنه الكاتب قبيل أن تتلاقى الكلمات على الصفحة، القارئ المثالي موجود في اللحظة التي تسبق لحظة الخلق. إنه لا يعيد بناء القصة، بل يعيد خلقها. إنه المترجم القادر على تشريح النص، تقشير الجلد، النفاذ إلى مخّ العظم، تتبُّع كل شريانٍ وكل وريد، ثم ينهض على قوامه كائناً جديداً، رهيفاً معافى. القارئ المثالي ليس محنِّط حيوانات، فكل المعدات مألوفة عنده، كما أن كل النكات جديدة. لديه قدرة غير محدودةٍ على النسيان، وبمستطاعه أن يطرد من ذاكرته معرفته. إنه يخلخل النص ولا يسلّم بكلمات الكاتب. القارئ المثالي تراكميّ؛ فكل قراءةٍ لكتابٍ من الكتب تضفي على السرد طبقة جديدة من الذاكرة. إنه يقرأ كما لو كانت كل الكتب عمل مؤلف واحد سرمدي غزير الإنتاج، عند إغلاق الكتاب يشعر القراء المثاليون بأنهم لو لم يقرأوه لكان العالم أكثر فقراً».
على النقيض منه ذلك الواثق من اكتماله، المقبل على المنصات باغتباط، المجيب عن كل الأسئلة باعتداد، غريزة التعلم لديه معطّلة، وفضيلة البحث عنده مهملة، لم يُشعِل عقله أيّ سؤال، يحرس ببسالة محيط جهله، وله زهو بقحط أرضه، وإذا رُمِي بسهم من العلم توقّاه بدرعٍ من الجهل، ولكنه يكتب أكثر من أي عالمٍ آخر، يمكنه تفريغ أجوبته الآسنة في كتاب، وإن خُيّر بين أن يسأل أو يجيب لباشر بالجواب، لا يقرأ إلا ما يكتبه هو، فهو في غيّه يعمه. إنه نموذج مشترك لجيل من السائرين المنوّمين خلف صرعات «السوشلة» باعتبارها منصّات معرفة، وما هي بذلك والله، وإنما حدُّها التسلية، ونهايتها الدردشة، وأنجح ما يمكنها إنتاجه التسلية بالثرثرة.
أخيراً، إذا مسَّك طرف من طوفان التفاهة، وكدت تغرق بالبلاهة، تذكر بورخيس «روح القراءة» بنظّارته وبعصاه يشير إليك: انهض وتعلم، لا تركن إلى معرفتك أيها الأحمق، تلك خصلة الجهلة!
إن القراءة ليست لحشو المعلومات، ولا لحفظ المقولات. إنها تعطيك فضيلة لن تجدها إلا بها، تعرف المساحات التي لم تصل إليها بعد.
إن العالِم يعرف شساعة ما يجهله، والجاهل يغتبط بقليل يعلمه.