سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

الأفيال تتصارع والعُشب يتكسر!

في أيام الرئيس حسني مبارك، بدا الشيخ عمر عبد الرحمن، مفتي جماعة «الجهاد» الراحل، ورقة سياسية في يد الولايات المتحدة، التي راحت تغازل بها نظام الرئيس الأسبق في القاهرة، وتمارس عليه ضغوطاً، كلما ألجأتها الحاجة السياسية إلى ممارسة ضغوط عليه، وكلما وجدت الأجواء مناسبة، والظروف داعية. وقد استمر هذا الأمر، وإذا شئت قلت استمرت تلك اللعبة أعواماً بين البلدين، دون أن تكون مجدية بالضرورة في آخر المطاف، فلقد بقي الشيخ هناك إلى أن مات وماتت معه ورقته!
ومنذ عشرين عاماً تحتفظ واشنطن بالداعية التركي فتح الله غولن، ورقة سياسية مماثلة في يدها، إذا ما أرادت الإدارة الأميركية الحاكمة ممارسة الغزل نفسه، ولكن مع رجب طيب إردوغان هذه المرة، لعله يتوقف عن عبث كثير يمارسه هذه الأيام، مندفعاً في اتجاه الشاطئ الروسي، تارة، وداعماً جماعة «الإخوان» في سبيل تحقيق طموح عثماني، يمثل هاجساً يشاغله في يقظته وفي منامه، تارة أخرى. ففي الحالتين يبدو سلوكه مزعجاً لإدارة الرئيس دونالد ترمب، وفي الحالتين يجري التلويح بورقة غولن في الهواء، على الشاطئ الآخر من الأطلسي، ربما يهدئ إردوغان من الاندفاع في الاتجاهين!
والذين يتابعون قصة السيدة مينغ وانتشو، المديرة المالية في شركة هواوي الصينية، منذ بدأت حلقاتها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لا بد أنهم شعروا بأن قصتها شبيهة وهي تجري حلقة بعد حلقة، بين الولايات المتحدة وبين الصين، بقصة عبد الرحمن في الحالة المصرية، وقصة غولن في الحالة التركية، ولكنها لحن مختلف رغم أنه عزف على النغمة ذاتها تقريباً!
فالسيدة وانتشو كانت في زيارة إلى مدينة فانكوفر الكندية، فجرى توقيفها بناء على طلب أميركي، ثم جرى إخلاء سبيلها بعد دفع عشرة ملايين دولار كندي، وسحب جواز سفرها، وتثبيت سوار إلكتروني في يدها، لتبقى في المدينة فلا تغادرها، ولتبقى كذلك تحت أعين السلطات الكندية في كل خطوة تخطوها. وقد استيقظت قصتها من جديد هذا الأسبوع، بعد أن كان غبارها قد هدأ قليلاً، وبعد أن كاد متابعها ينساها، والسبب أن القضاء الكندي سيكون عليه النظر في أمر تسليمها إلى واشنطن التي تطلب ذلك بإصرار!
والتهمة الموجهة إلى مديرة هواوي تهمتان اثنتان، لا تهمة واحدة، أما الأولى فهي الالتفاف من خلال أعمال الشركة على العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب على إيران، وأما الثانية فهي إقدام الشركة التي تأتي في الترتيب الثاني عالمياً، من حيث حجم إنتاج الهواتف الذكية، على سرقة أسرار تكنولوجية رفيعة من شركة تي موبايل الأميركية. ولكن الحكومة في بكين تنفي طبعاً أن تكون الشركة قد تحايلت على العقوبات، أو أن تكون قد سرقت أسراراً، وتطلب من إدارة ترمب أن تقدم الدليل!
والحقيقة أن إمكانات الشركة الصينية العملاقة، على المستوى الفني تحديداً، تعزز احتمال ارتكاب التهمتين، أو ارتكاب إحداهما على الأقل، كما أن قدرات الاقتصاد الصيني المتعاظمة، تعزز ذات الاحتمال وتُرجحه، خصوصاً أنها قدرات محمولة على طموح سياسي جارف لدى بكين بامتداد العالم. فالتاريخ يقول إن هذا هو دأب اقتصادات الدول في مثل حالة الصين!
غير أن سؤالاً يظل معلقاً في أفق القصة من أولها إلى آخرها على النحو التالي: إذا بدت التهمتان وجيهتين، وإذا صح أن «هواوي» تحايلت على العقوبات، وسرقت الأسرار، فهل يا ترى هناك أسباب أخرى ليست معلنة وراء إثارة أزمة بهذا الحجم بين أقوى اقتصادين على وجه الأرض، اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاد الصين، أم أن المسألة هي فعلاً مسألة مجرد التفاف على عقوبات وسرقة أسرار؟!
الظاهر أن التهمتين رغم مساحة الوجاهة فيهما معاً، مجرد لافتة لها ما وراءها، فهذا ما تقوله دلائل وتنطق به شواهد، منذ بدأت القصة وتطورت، ومن بين هذه الشواهد، على سبيل المثال، أن ترمب لم يجد حرجاً في الإشارة أكثر من مرة، إلى أنه من الوارد جداً أن يتدخل في قضية وانتشو، إذا ما رأى أن تدخله يمكن أن يخدم المفاوضات التجارية الصعبة الجارية منذ فترة على يديه بين الدولتين!
لم يذكر الرئيس الأميركي كيف سيتدخل، ولا في أي اتجاه، ولا بأي وسيلة، ولكن ما يمكن فهمه بوضوح من هذا التلويح من جانبه، أن مديرة الشركة الصينية يمكن أن تقف لفترة في المربع الذي وقف فيه من قبل، الشيخ عمر عبد الرحمن، والذي يقف فيه حالياً الداعية فتح الله غولن، فكلها أوراق متنوعة تضعها الإدارة الأميركية في جيبها، حتى إذا وجدت نفسها في حاجة إليها أخرجتها، ثم راحت تلوّح بها سياسياً، وتلعب، وتكسب، وتجمع الكروت في يدها من فوق الطاولة أمامها!
ومع ذلك، فالقصة إذا وضعناها في إطار جلسة الاستماع التي جمعت مديري وكالات استخبارات الولايات المتحدة، داخل مجلس الشيوخ، قبل شهر من الآن، ضمن اجتماع سنوي معتاد، سوف تكشف عن بُعد آخر له طبيعة سياسية خالصة!
في الاجتماع الذي كانت السيدة جينا هاسبل، مديرة المخابرات المركزية الأميركية على رأسه، جرى الحديث عن الدول الخصوم بالنسبة لواشنطن، وجرى تحديد أربع دول على وجه التحديد، وكانت هذه الدول هي الصين، وإيران، وكوريا الشمالية، وروسيا. ثم جرى الحديث عن نوع الخطر الذي يمكن أن يصيب الولايات المتحدة من وراء هذه الدول مجتمعة، أو بالأدق من وراء واحدة منها بمفردها هي الصين، وكان الحديث عن انتخابات الرئاسة الأميركية في العام المقبل حاضراً أمام مديري الوكالات، وبجانبه كان هناك حديث آخر يتوازى معه، عن تهديد قد يواجه الناخب الأميركي في هذه الانتخابات، وعن أنه تهديد من نوع إلكتروني جديد!
وهذه الزاوية من زوايا الخطر هي بالضبط ما تلمحها من بين السطور، في كل مرة يدور فيها الكلام عن إمكانات «هواوي» الفنية الهائلة، وعن قدرتها ربما على اللعب بمزاج الناخب الأميركي، وتوجيه صوته نحو وجهة معينة، إذا ما ذهب يقترع ويؤيد هذا المرشح دون ذاك أمام الصندوق!
وفي سياق الصداع الذي لا يفارق رأس ترمب عن تدخل روسي، وقع لصالحه في الانتخابات التي جاءت به رئيساً، فإن حديثاً من نوع ما تتداوله الأوساط الإلكترونية، عن شركة السيدة وانتشو، وعن قدراتها الأسطورية في سوق الموبايل، وعن إيحاءات هذه القدرات، وعن تجلياتها المنتظرة في المستقبل، لا بد أن يظل هاجساً يطل كالشبح في الأفق السياسي الأميركي!
وعندما تكون وانتشو هي الأداة الضعيفة في دراما حلقات القصة المتعاقبة، بين أكبر اقتصادين، وعندما يتعقب إردوغان أنصار غولن بالمطاردة والتشريد، إلى حد أن إحصاءات لوزارة العدل التركية، تشير إلى خضوع نصف مليون تركي للتحقيق، منذ وقعت محاولة الانقلاب على الرئيس التركي منتصف 2016، فالمثل الدارج عن «الأفيال التي تتصارع، وعن العشب الذي يتكسر» تحت أقدامها الثقيلة، يخيم بقوة في فضاء القصة بحالتيها، ويحضر بكثافة في تفاصيلها، ويضغط بعنف في أركانها البادية والخافية!