محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

مواسم السياسة العربية

مع احتدام الاحتقان السياسي في كل من الجزائر والسودان، واستمراره في ليبيا وسوريا، وتعثره في تونس، وتشابكه الدامي في اليمن، وفي جملة ساحات عربية أخرى، تتجلى القتامة على مجمل المشهد السياسي العربي، ويحق معها طرح السؤال على الساحة العربية، والقائل: «هل تسببت (الجمهوريات العربية) - التي انتشرت في الفضاء العربي السياسي منذ الحرب العالمية الثانية - في تقدم المجتمع العربي، أم في عدم مفارقة مراوحته لمكانه، أم في تخلفه بسبب عطل موروث في آلية انتقال السلطة التي يتطلبها النظام الجمهوري؟».
الإجابة عن السؤال تتجاوز الحدث اليومي المتغير بسرعة، الذي يلهث المتابع العربي ليعرف إلى أين وصل؛ بل إن تلك الإجابة تمتد إلى محاولة فهم صيرورة العمل السياسي، وأين تكمن مرافئه الآمنة، للوصول إلى حياة هادفة، تحافظ على الكرامة الإنسانية التي يتشوق إليها المواطن العربي.
من منظور المصالح العامة والمرسلة ومشاهدة تطور الشعوب، يبدو أن توصيف الجمهوريات العربية بالهشة ليس توصيفاً مبالغاً فيه! بل وحتى الجمهوريات حولنا في المنطقة، سواء التركية أو الإيرانية.
إن أهم ميزة تفتقدها جمهورياتنا هي ميزة «العد»! أي معرفة عدد السنين والحساب. فالعد في السنين والحساب يقع في البؤرة المظلمة من الأنظمة السياسية الجمهورية.
إن ما يُقصد بلفظ «الجمهورية» في أوسع معانيه هو تداول السلطة، أي الاستعداد منذ البداية لترك المنصب الرفيع لآخرين، في وقت محدد يضعه «الدستور»؛ لكن الحاصل أنه ما إن يصل رئيس الجمهورية العتيد إلى الكرسي، حتى يبدأ في التفكير (مع الحاشية) كيف يمكن كسر ذلك العدد من السنين المرسوم في الدستور وتجاوزه.
قضى حسني مبارك ثلاثين عاماً في السلطة، وكان العد «غائباً». وربما كان أهم عنصر في قيام ثورة يناير (كانون الثاني) المصرية، أياً كان تصنيفها، هو «الوهن الشعبي من طول السنين والحساب في السلطة». ينطبق ذلك على زين العابدين بن علي في تونس (23 عاماً) ومعمر القذافي في ليبيا (40 عاماً)، وعلي صالح في اليمن (34 عاماً). وأخيراً ينطبق على عبد العزيز بوتفليقة (20 عاماً في السلطة)، وعمر البشير (30 عاماً في السلطة)، في كل من الجزائر والسودان، وينطبق أكثر ما ينطبق على بشار الأسد في سوريا، الذي يناهز حكمُه العشرين عاماً حتى اليوم!
في أيام مبارك لم يكن قلق المصريين من طول بقائه في السلطة خافياً، فقد كان الهمس والحديث المكبوت لدى تجمعات المهتمين المصريين، حول من يخلف مبارك ومتى. والأكثر إلحاحاً: لماذا لم يجد السيد مبارك شخصاً مصرياً مؤهلاً لخلافته، بأن يكون نائباً للرئيس من بين التسعين مليون مصري؟ فقط تحوطاً للطوارئ!
واليوم يخرج عدد كبير من الجزائريين محتجين على أن رئيسهم المفترض للسنوات الخمس القادمة، غير قادر على القيام بمهماته، بسبب اعتلال صحته لا غير. فمن يدير الدفة في الجزائر؟ وهو سؤال كما أنه مغلق شرعي ومباح.
والتعب نفسه من «العد» يظهر في السودان، الذي قضى فيه الرئيس على كرسيه ثلاثين عاماً، ويطمح - حتى مؤخراً - في التجديد!
لو قرأنا تاريخ «الصراع» المؤدي في بعض الأحيان إلى حرب أهلية، تصغر أو تكبر في بلد مثل لبنان، لوجدنا أن مفجر تلك الصراعات على طول تاريخ لبنان الحديث، هو «تجاهل حساب السنين»، أي محاولة الرئيس التجديد أو التمديد، منذ بشارة الخوري، حتى إميل لحود، مروراً بكميل شمعون!
ماذا يحدث عند تجاهل «السنين والحساب» في عالم الجمهوريات العربية؟ تحدث دينامية تكاد تكون مسلّماً بها معرفياً، وهي الانفراد المَرضي بالسلطة، وتكوُّن طفيليات بشرية على مر السنين حول تلك السلطة، تسكن إليها وتأمن لها وتسلمها زمام الأمر، فينتشر الفساد «المسكوت عنه»، وتحول تلك المجموعات الصغيرة والمتنفذة كل جهد الدولة إلى حماية السلطة، وإهمال حماية الوطن. في هذه اللحظة يتم اختراق الوطن؛ ليس فقط من خلال نهب موارده؛ بل أيضاً بتقديمه لقمة سائغة لمن يرغب في التدخل في شؤونه وتمزيق لحمته.
قبل الثورات كانت الأولوية في الأغلب للوطن. «الشواهد» كثيرة، وربما تأتي من الخصوم لتدلل على ما ذهبت إليه، فقد نقل إلينا الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «سقوط نظام»، عام 2002، الذي نشره بمناسبة مرور نصف قرن على قيام الثورة المصرية، مبرراً تنازل فاروق عن الحكم: «إن فاروق كان وطنياً مصرياً»، وربما المعنى أنه قبل بالتنازل السريع عن السلطة، حقناً للدماء.
لو ألقينا نظرة على سوريا اليوم، لوجدناها بلداً ممزقاً، ومدناً هُجِّر سكانُها، وبشراً يعجز أي قلم مهما أوتي من فصاحة عن أن يرسم ذلك الألم الإنساني العميق والغائر في نفوسهم، في الشتات وتحت انهمار القنابل، وقد تحول الجميع إلى مهاجرين يتسولون لقمة عيشهم في عشش، هي أقرب إلى سكن الحيوان منها إلى الإنسان، مع آلاف مؤلفة من القصص الإنسانية التي ربما يعجز عن تحملها «أيوب» في تراثنا! فوق كل ذلك نجد وطناً مستباحاً من ميليشيات قادمة من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، وأماكن بعيدة في وسط آسيا. وتتحكم في الوطن - بسبب تقديم أمن النظام على أمن الوطن - دول، من بينها إيران وروسيا. مثال واضح جلي على تقديم أمن النظام على أمن الوطن، والحفاظ على الكرسي في مقابل دماء المواطنين.
وفي البلاد التي يفتقد فيها رأسها «حساب السنين» تضيع دماء البشر. والمثال الآخر الواضح في اليمن. فأصل الشرور هو تقديم علي صالح أمن نظامه على أمن الوطن، ومن أجل شهوة الحفاظ أو الرجوع إلى السلطة، تم وضع كل مقدرات اليمن في يد الحوثي، الذي كان في ظن صالح أنه سوف «يتعشى» به، فـ«تغدى» الحوثي بصالح أمام الأشهاد!
أمام هذا المشهد، كيف يمكن أن نتوقع المخرج القريب أو المتوقع، في كل من الجزائر والسودان؟ ما زال النظامان يحاولان بجدية اتباع تكتيكات التخويف والإرجاء. كلا الرئيسين أعلنا أنهما لن يترشحا في المستقبل، وذلك تكتيك تأخيري، أما التكتيك الثاني فهو التخويفي، كمثل قول أحد المسؤولين السياسيين الجزائريين في البرلمان، إن المتظاهرين يقدمون للشرطة الورود الآن، كما فعل في البداية متظاهرو سوريا، وسرعان ما سوف ينقلبون إلى الرصاص، أو التخويف بعودة العشرية السوداء! وكذلك في السودان يردد كثير من المسؤولين: «انظروا ما حدث في سوريا!».
بالتأكيد هي قراءة خاطئة للماضي، ومن يقرأ الماضي بطريقة خاطئة فسوف يفسر الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة. فتجارب الشعوب - وإن بدت في الظاهر متقاربة - هي بكل تأكيد ليست متشابهة. زيادة على ذلك فإن الشعوب نفسها تتعلم من أخطاء الآخرين. من هنا يأتي إصرار النشطاء في كل من الجزائر والسودان على سلمية مطالبهم. لم تعد فكرة الزعيم الذي يحتكر السلطة إلا وهماً، وكذلك الزعيم المنزه لم يعد له مكان في الصيرورة التاريخية الإنسانية. وذلك القبح في فرض الماضي على الحاضر لم يعد مقبولاً، والبشرية تحقق كل هذه الإنجازات العلمية والاجتماعية. إنه بقاء في الماضي أفرز كل تلك الشرور التي حولنا اليوم، من التشدد إلى الإرهاب إلى عدم اليقين المنتشر بين الجيل الجديد.
يستحق وطننا العربي مواسم أفضل من هذه المواسم، التي لا تريد أن تفارق أو تتجدد!
آخر الكلام:
منذ أن صك أستاذ الاجتماع سعد الدين إبراهيم مفهوم «الجملوكية»، لم يعد مواطن عربي يثق بنتائج صناديق الانتخاب؛ لأنها تخرج له دائماً الوجوه نفسها!