خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ذكاء جاموسة

كثيراً ما نسمع عن أهوار العراق ومنطقة الأهوار وحيوانات الأهوار. قلّما تجد أحداً يعرف الكثير عنها، رغم ضمها إلى التراث العالمي لليونيسكو بحيث يقتصد بحمايتها. منطقة الأهوار منطقة صغيرة في أقصى جنوب العراق. وتعد فريدة في نوعها. وهي عبارة عن سلسلة من البحيرات الضحلة المرتبط بعضها ببعض. وتعتمد مياهها على ما يصبّه فيها نهر دجلة ونهر الفرات. ولهذا يمكن القول بأن تاريخها الجغرافي يمتد بعيداً إلى تكوُّن الكرة الأرضية. ولكنها ارتبطت حضارياً بتاريخ الإنسان بنحو عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، أو بعبارة أخرى، في أول نشوء سومر.
يسكنها المعدان الآن في أكواخ أو بيوت من القصب الذي ينبت فيها تلقائياً. يعيشون فيها على صيد الأسماك والطيور ورعاية الجاموس الذي يقضي جل حياته غاطساً بالماء. نشأت عبر السنين علاقة وطيدة بين الإنسان والجاموس. كلٌّ يعرف صاحبه ويفهم لغته. المعيدي يناديها ويوجهها بكلمة واحدة من مقطع واحد: «هو!»، ومن هنا جاءت كلمة «هور» والجمع أهوار ومنطقة الأهوار. والمعيدي يناغي الجاموسة حسب تنغيمه لكلمة «هو».
منطقة الأهوار كما ذكرتُ تتكون من سلسلة بحيرات أو بركات، وقنوات. والمعدان لهم إشاراتهم التي تعلمهم على الاتجاهات والأماكن. ويظهر أن أحدهم لم ينتبه جيداً إلى هذه الإشارات ولا عرفت الحيوانات مسالكها جيداً، فضاعت واحدة من القطيع. بذل الرجل أقصى جهوده للعثور عليها وناشد القوم عنها دون جدوى، وفقد أمله في العثور عليها.
مرت نحو خمسة أعوام وهو يواصل عمله في رعي قطيعه من الجاموس الثمين. ولكن الصدفة ساقته يوماً إلى ملاحظة الجاموسة الفقيدة وهي تسبح مع قطيع آخر. فتَّش عن صاحبه فوجده وكلّمه في الموضوع. أجابه الرجل بأنه اشترى هذه الجاموسة بالذات من راعٍ آخر قبل أربع سنوات. احتدّ النزاع بينهما حتى تدخل الآخرون من الخبراء بالجاموس. برز من بينهم معيدي مهيب أشيب الشعر واللحية. قال: «قف أنت يا هذا على هذه النقطة من جرف الهور، وقِفْ أنت المدِّعي بالجاموسة على مسافة منه. وعلى كل واحد منكما أن ينادي على الجاموسة بنغمة نداء العودة من السبح حسب نغمته. ودعونا نرَ ستفضِّل الجاموسة أياً منكما حسب نغمة ندائه (هووو هوو)». قاما بذلك، وإذا بالجاموسة تشنّف أذنيها وتلتفت وتحدق بعينيها ثم تضرب الماء وتسبح نحو المالك الشرعي الذي عرفته قبل خمسة أعوام وربّاها في طفولتها ونشأت بين قطيعه.
قال الخبير: «قُضي الأمر. الجاموسة حسمت النزاع بموجب ما تعلمته من أنغام الهو هو. خذها يا رجل وعد بها إلى حظيرتك هانئاً راضياً».
استمعتُ لهذه الحكاية مؤخراً فقلت لنفسي: يا سبحان الله! واستمعت بعد أيام لموضوعات كل هذه المنازعات الجارية حالياً في العراق. وقلت: يا أهل العراق، لماذا لا تتعلمون من جواميسكم وخلّصونا؟