د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

إعلان بوتفليقة... ما وراءه؟

إعلان بوتفليقة عدم ترشحه لولاية خامسة، وتأجيل الانتخابات، لا أنظر إليه على أنه تمديد لولايته الرابعة بطريقة مراوغة، كما يفسره البعض، ولا أنظر إليه على أنه انحناءة أمام العاصفة، بل أراه من خلال تاريخ الرجل الوطني، فبوتفليقة كان تاريخه وطنياً بامتياز، ولهذا من المنصف أن ننظر للأمر من خلال تاريخ الرجل، لا من خلال منافسيه، الذين تزعمهم علي بن فليس بالقول: «الخطوات التي اتخذها الرئيس بوتفليقة بتأجيل الانتخابات هي (قرار غير دستوري)، وتهدف إلى تمديد بقائه في الحكم». في حين يعارضه البعض بالقول إن قرار تأجيل الانتخابات يستند إلى المادة 107 من الدستور الجزائري.
البعض ممن يفضلون اشتعال النيران في الجزائر، يقرأ ما حدث على أنه مناورة سياسية، وتمديد لولاية منتهية، ومخادعة كبيرة، ونوع من «الالتفاف» على مطالب الشعب، وفرض لشرعية الأمر الواقع، قد لا يكون بوتفليقة أحد أطرافها لغياب الرجل من المشهد بسبب وضعه الصحي، وتحكم أركان النظام بجميع دقائق الأمور، لكن لو صدقنا فرضية ذلك، فالمشهد السياسي والحكمة والمصلحة الوطنية التي تسبق القوانين والدستور، تتطلب مخرجاً من الأزمة، وأعتقد أن ما أعلنه الرئيس بوتفليقة، يحقق الكثير من مطالب الشعب، الذي خرج رافضاً الولاية الخامسة، ولكن يبدو أن جماعات الإسلام السياسي تقرع طبول الفوضى وتأجيج الوضع.
المظاهرات التي عمت عموم البلاد الجزائرية، وحملت شعار «dégage – ارحل»، وآخر «ترحلو يعني ترحلو»، التي كانت وراء اتخاذ الرئيس بوتفليقة قراره بعدم الترشح، كانت محل إطراء وإعجاب من كثيرين لسلميتها، وعدم انجرارها نحو العنف، لدرجة الإشادة بها من الرئيس بوتفليقة نفسه قائلاً: «شاهدنا خروج عدد من مواطنينا ومواطناتنا في مختلف ربوع الوطن، للتعبير عن آرائهم بطرق سلمية، ووجدنا في ذلك ما يدعو إلى الارتياح، لنضج مواطنينا، بمن فيهم شبابنا».
قد تكون الحنكة السياسية للسياسي المخضرم بوتفليقة، جعلته يسعى إلى استخدام سياسة الاحتواء والاستفادة من دروس سابقة لا تزال شعوبها تدفع ثمن تعنت حكامها، ورفضهم القبول بالتغيير. صحيح أن الرئيس بوتفليقة فيما أعلنه، أو أعلن نيابة عنه، قدم أوراقه للترشح، في حين أوضح أنه لم يكن في نيته الترشح، في تناقض صريح، وإرباك في مؤسسة الرئاسة.
وكان بوتفليقة طالب بالترشح والبقاء عاماً واحداً يتعهد فيه بعدم الترشح مرة أخرى، ثم سرعان ما تغير سيناريو مؤسسة الرئاسة بإعلان تأجيل الانتخابات، الذي هو بقراءة أخرى تمديد لولايته الرابعة، وبذلك قسم الشارع صفين، بين من سيرضى بتمديد الولاية الرابعة، وهي أهون الشرّين، وبين من سيرفضها، وقد صرح بعض القيادات الرافضة بذلك، ولكن هذا لم يخرج بوتفليقة بخفي حنين، بل قد كسب بعض الوقت لترتيب الأوراق والبيت الداخلي.
ما حدث هو إعادة لصياغة النص، وليس تغييراً في موقف الرئاسة، فبدلاً من ولاية خامسة، مرفوضة بالمطلق، تم الإعلان عن عدم الترشح للخامسة، بمقابل تمديد الرابعة، بحجة تأجيل الانتخابات، وهو بذلك «فسر الماء بعد الجهد بالماء»، في سابقة لا مثيل لها.
لا أحد يحب للجزائر أن تنزلق إلى الفوضى، فالجزائر البلد العربي الكبير، الذي قدم مليون شهيد ضد الاستدمار الفرنسي، وعانى تجربة مريرة مع عنف الجماعات الإرهابية، التي قتلت أكثر من 200 ألف مواطن جزائري بدم بارد في تسعينات القرن الماضي، وكان عبد العزيز بوتفليقة المرفوض اليوم أحد معالجيها وصناع استقرارها، لا يمكن أن ينزلق نحو العنف مجدداً في ظل أمثلة عربية يراها أمامه عصفت بها الفوضى.
وأخيراً، فإن اختيار الأخضر الإبراهيمي وجميلة بوحريد لقيادة الحوار الوطني تعتبر خطوة جادة، وتعبر عن جدية بوتفليقة في خريطة الطريق التي أعلن عنها، على الرغم من اتهام بوتفليقة بتمديد الولاية الرابعة من لدنه.