سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

قضية دولية تتحول إلى ورقة سياسية!

ليست الداعشية شميمة بيغوم، البريطانية ذات الأصل البنغلاديشي، سوى امرأة أوروبية من بين 700 «داعشية» مثلها، يجلسن محتجزات في هذه اللحظة داخل معسكرات في شرق سوريا، وليس طفلها الذي توفي قبل أيام داخل المعسكرات هناك، سوى واحد من بين 1500 طفل مثله، لا يزالون هناك أيضاً في انتظار مصير لم يتحدد بعد، وليس زوجها الداعشي الهولندي يوجو ريديك، سوى شاب من بين 800 رجل مثله، ينتظرون في المعسكرات ذاتها تحت سيطرة كاملة من قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة أميركياً، وقد كانت هي التي طاردتهم رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، إلى أن تمكنت من جمعهم في مكان واحد تحت سيطرتها، ثم دعت الدول الأوروبية التي يحمل هؤلاء الدواعش جنسياتها إلى النظر في الأمر.
وقد اشتهرت شميمة بأنها عروس «داعش»، ولا أحد يعرف سبب إطلاق هذا اللقب عليها، فليست هي وحدها العروس البالغة 19 عاماً بين الداعشيات في المكان. إن الداعشية هدى المثنى، الأميركية ذات الأصل اليمني، تظل تنافسها على اللقب، لأنها في سن قريبة منها، ولأن لديها هي الأخرى طفلاً من زوج «داعشي» لم تكشف عن حقيقة جنسيته، ولأنها لا تزال تأمل في العودة إلى أسرتها وبلادها، تماماً كما تأمل شميمة وترجو، لولا أنه أمل بعيد فيما يبدو من خلال صدى رجائها حتى الآن!
وكانت عروس «داعش» قد هجرت بيت أسرتها في بريطانيا قبل أربع سنوات، وقررت الذهاب إلى مواقع تنظيم «داعش» في الشرق السوري، حيث انضمت إلى صفوفه، بعد أن آمنت بأفكاره، وتزوجت الداعشي ريديك، وشاركت في القتال مع رجال التنظيم وعناصره، وأنجبت طفلين قبل طفلها الأخير، اللذين ماتا في ظروف القصف من جانب قوات التحالف على مواقع التنظيم. فلما وجدت نفسها محتجزة في معسكرها مع طفلها الثالث قبل وفاته، أفاقت من غفلتها، وطلبت العودة إلى لندن، وناشدت حكومة السيدة تيريزا ماي تسهيل عودتها، وثار حولها وحول حقها في العودة من عدمه جدل واسع، انتهى بقرار من ساجد جاويد، وزير الداخلية البريطاني، بتجريدها من جنسيتها البريطانية، مع الاحتفاظ لطفلها بحقه في حمل الجنسية.
ولم تكن الداعشية هدى المثنى بعيدة عن العيش في ظروف مماثلة، ولكنها تختلف في أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب غرد كعادته، وأنكر أن تكون أميركية أصلاً، وقال - ما معناه - إنها إذا كانت تحمل الجنسية الأميركية بحكم مولدها كما تقول، فإنها لا تستحق أن تكون أميركية، وكذلك قال وزير خارجيته مايك بومبيو، ولم يشفع لها أنها أعلنت ندمها على الانضمام إلى «داعش»، ولا أنها قالت إنها تعرضت في البداية لعملية «غسيل مخ» على يد التنظيم، وإنها تخشى على حياة طفلها، وإنها لم تعد تؤمن بأفكار «داعش» التي انخدعت فيها عند اللحظة الأولى، ولم تتبين حجم الزيف فيها.
ولم يشأ ترمب أن يكتفي برفض استقبالها على أرض الولايات المتحدة، ولكنه دعا كل دولة أوروبية إلى استقبال أي «داعشي» يحمل جنسيتها في معسكرات شرق سوريا، فانقسمت عواصم أوروبا حول الموضوع بشدة، ورفضت جميعها استقبال أحد منهم، ودعت إلى محاكمتهم في أماكنهم، إلا هولندا، التي قالت إنها ليست ملتزمة بهذا الموقف الأوروبي في عمومه، لأنه يخص أصحابه وحدهم، وإن لها موقفها الذي يخصها ويعبر عما تراه، وإنها ستستقبل ريديك، زوج شميمة بيغوم، وإنها سوف تظل ترشده بعد عودته وتراقبه، وإن هذه هي الطريقة الأنسب في التعامل مع الدواعش العائدين.
وفي شتى مراحل قصة الدواعش المحتجزين، بدت شميمة بالذات، كاشفة للكثير من الأوراق، سواء على مستوى الداخل البريطاني أو حتى على المستوى الدولي بين الولايات المتحدة وأوروبا، بل إنها بدت هي ذاتها وكأنها ورقة جرى اللعب بها بين مختلف الأطراف.
ذلك أن الرئيس الأميركي دعا الأوروبيين إلى عكس ما فعل هو، لأنه لو كان قد قرر استقبال هدى المثنى، خصوصاً بعد إعلان توبتها، لكانت خطوة كهذه قد أغرت دول أوروبا بالسعي في الطريق نفسها، ولكانت هذه الدول قد أعادت النظر في موقفها الذي لا يزال رافضاً، ولكانت قد سارعت بالتعامل مع هؤلاء المحتجزين بما يبعدهم عن أرض التنظيم، وينتزعهم من منطقته، أو التي كانت منطقته، ولكن لأن ترمب دعا الأوروبيين إلى التصرف على عكس تصرفه، فإنهم لا يزالون في أماكنهم ينتظرون، ولا يزالون يرون في دواعشهم خطراً محتملاً لا يستطيعون استدعاءه إلى أراضيهم. وقد بدا الرئيس الأميركي وكأنه يحول القضية إلى فصل جديد من فصول معركته الممتدة مع حلفاء بلاده الأوروبيين.
وعندما هدد جون بولتون، مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي، بنقل هؤلاء الدواعش الأوروبيين إلى سجن غوانتنامو الأميركي الشهير، فمثل هذا التهديد لم يغير من الموقف الأوروبي شيئاً، وبقي كل «داعشي» محتجزاً في مكانه، وبقيت كل عاصمة أوروبية على موقفها.
ولم يختلف الحال على مستوى الداخل البريطاني تجاه شميمة، باعتبارها رأس الموضوع وأحد تجلياته، لأنها مثلت منذ ظهور حكايتها إعلامياً، ميداناً للمناورة السياسية الواسعة من جانب حزب العمال المعارض. فلقد بدا الحزب راغباً في عودتها، ومشجعاً ومُرحباً على النقيض من رغبة حكومة ماي بالكامل، وعندما مات طفلها هاجم الحزب حكومة البلاد، واتهمها بأنها بقرارها القاسي الرافض لعودة شميمة وابنها تسبب في وفاته، وبالتالي فذنبه مُعلق في رقبتها.
وليس معروفاً على وجه الدقة، ما إذا كان هذا الموقف منه هو موقف عن قناعة راسخة، أم أنه مجرد لعب سياسي بالقضية، على حساب حزب المحافظين الحاكم. وفي غالب الأمر، يظل الاحتمال الثاني هو الأرجح، لسببين أساسيين؛ أولهما: أن حزب العمال لم يتعرض لقضية الدواعش المحتجزين في مجملها، وبينهم بالتأكيد بريطانيون آخرون بخلاف هذه العروس شميمة. وثانيهما: أن الحزب يجلس في مقاعد المعارضة، ومن شأن المواقف السياسية في مثل حالته أن تكون راغبة في إحراج الحزب المنافس سياسياً، وفي تعريته شعبياً، وفي الإيقاع به انتخابياً، أكثر منها مواقف قوية ومعبرة عن مبادئ مستقرة على الأرض، أو حتى مبادئ راغبة بالفعل فيما تدعو له، وتعلنه، وتسوقه بين قطاعات الرأي العام.
وهكذا بدت ضغوط ترمب على أوروبا، ثم ضغوط حزب العمال على حكومة ماي، وكأنها تسعى في الأساس إلى إحراز أهداف في المرمى الأوروبي بوجه عام، وفي المرمى البريطاني بشكل خاص، دون أن يفكر الطرفان الضاغطان في انتهاز هذه الفرصة المتاحة لإشهار إفلاس تنظيم «داعش» على ألسنة الذين انخدعوا فيه وفي أفكاره، وفي سلوكه الداعي إلى العنف والتدمير.
لقد بدأت حكاية الدواعش المحتجزين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، بوصفها قضية تنتظر معالجة من نوع خاص، ولكنها ما لبثت حتى تحولت إلى ورقة سياسية، يضغط بها كل طرف يجدها بين يديه، لإحراز أهداف في غير مرمى الموضوع.