طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الصورة قبل الموت وبعده

قال أمير الشعراء أحمد شوقي لتلميذه، الذي كان يشغل في قلبه مساحة ابنه الروحي، المطرب محمد عبد الوهاب، الذي احتفلنا قبل أيام بعيد ميلاده الـ118: «أنا عايزك تموت يا محمد». ارتعد عبد الوهاب الذي كان معروفاً عنه حرصه الشديد على الحياة ووصل فعلاً رصيده منها لأكثر من 90 عاماً. كان عبد الوهاب شديد «الوسوسة» على حياته، وصحته هي رقم واحد بالنسبة له، فما بالكم بالموت، ولهذا قال له شوقي مخففاً من انزعاجه: «عايز أكتب عنك قصيدة تخلدك». طبعاً عبد الوهاب لا يريد هذه المرة أن يحصل على مثل هذا الخلود. لقد تنازل أمير شعراء الفصحى عن عرشه من أجل عيني عبد الوهاب، وكتب له أكثر من 10 أغنيات بالعامية منها «الليل لما خلي»، وخاض معارك طاحنة مع معاصريه بسبب ارتباطه بعبد الوهاب، ورغم ذلك تمنى أن يكتب قصيدة عنه بعد الرحيل. تأملوا المعنى؛ الموت يجعلنا نستجمع لا شعورياً كل ما بداخلنا من طاقة حب ونور، لكي نمنحها لمن لم يعد في استطاعتنا أن نقول لهم كم نحبكم.
هل تختلف صورة الإنسان بعد الموت، أقصد عندما نراها بعد سماع خبر الرحيل، عندما نعيد تأملها؟ أتصور أن الإجابة هي نعم. تابعوا مثلاً ما الذي كتبه عميد الأدب العربي طه حسين عن غريمه عملاق الأدب عباس محمود العقاد... عاش طه حسين نحو 9 سنوات بعد رحيل العقاد، فلم يكن يترك مناسبة إلا ويعدد مآثر العقاد، رغم ما شهدته الساحة الأدبية بينهما من معارك طاحنة، حتى إن العقاد كان يطلق ساخراً على طه حسين «عمي الأدب العربي».
ورغم ذلك فلقد مسح الموت من قلب طه حسين أي مشاعر عدائية للانتقام من غريمه الراحل. الآن باتت منصات التواصل الاجتماعي في جزء كبير منها ليست بعيدة عن كل ذلك، تتناول صور الموتى من الأصدقاء والأقارب، البعض في لحظة يضع صورة إنسان عزيز عليه ويبدأ في ذكر محاسنه وإضافاته، ويشارك العشرات والمئات، في الحديث بكل الحب، أما لو كانت المناسبة هي الاحتفال بجائزة حصل عليها فنان أو مثقف، ستجد أن «السوشيال ميديا» قد اشتعلت هذه المرة بقذائف عكسية تقلل من قيمة الجائزة أو الإنجاز الذي تحقق.
الأستاذ الكاتب الكبير الراحل علي سالم قال، في واحدة من تجلياته: «الفنان أو الكاتب الذي يغادر الحياة يتنازع من يكتبون عنه إحساسان متناقضان؛ الحزن لفقده وأيضاً السعادة المغموسة بالمصلحة، لأنه سوف يترك بشكل أو بآخر مساحته لهم». هل الموت يشعر الناس في لحظات بعدم جدوى الصراع الدائر بينهم؟... لقد كانت مثلاً العلاقة فاترة جداً في السنوات العشرين الأخيرة بين محمود عبد العزيز وعادل إمام، ولكن بعد رحيل محمود، أشاد به عادل إمام كثيراً، وهو ما تكرر نفسه بين أحمد زكي وعادل إمام.
الصورة مع من فقدناهم تسبق عادة السيرة، كل من رحل وارتبطنا بهم وجدانياً بمجرد سماعنا الخبر نستدعي صورهم ونعايش مجدداً مواقفهم، ويسقط تماماً في لحظات أي مساحات غضب أو سوء فهم عابر، هل تعتبر تلك المواقف بمثابة دروس لنا على طريقة «كما تدين تدان»، فمن لا يزال على قيد الحياة يتمنى تكرار تلك الطاقة التي انطلقت لا شعورياً تجاه من نودعه وينتظر عندما تحين ساعته أن يجد أيضاً من يبكي عليه معدّداً مآثره... ربما.