خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الصور الفزاعة

عجيب كيف تتطور تقاليد المنطقة! لنأخذ مثلاً فكرة الفزاعة، أو «الخراعة» كما يسمونها في العراق. لقد استعملها المزارعون منذ ألوف السنين في تخويف الطيور وإبعادها عن المزروعات. ولكنني في زيارتي للعراق في عهد صدام حسين لم أجد أثراً للفزاعات التي كنت وأنا طفل صغير أستأنس بها، بمشاهدتها بوجوهها المزركشة الظريفة وثيابها المهلهلة وألوانها الصارخة. اختفت الفزاعات الآن من العراق، لأنه لم تعد في البلد أي مزروعات تتطلب حمايتها.
ربما كان الأمر كذلك، وربما لأن الطيور لم تعد تحط في العراق، في طريق هجرتها من روسيا إلى أفريقيا، بعد أن رأت في الجو صور الرئيس العراقي تطالعها في كل مكان. وهو ما أخذ يفعله المثقفون والخريجون. يأخذون شهاداتهم ويرحلون إلى شتى ديار الله.
نعم، لقد اختفت الفزاعات التقليدية، ولكنها أخذت فيما بعد شكلاً متطوراً، وهو صور وتماثيل الرئيس المنتصر. وهذا شيء لا يفهمه كثيرون. يتصور الجميع أن هذه التصاوير والتماثيل التي تملأ المدن والقرى موضوعة هناك للغرور والدعاية. هذا تصور خاطئ. إنها فزاعات، ولكن ليس لإفزاع الطيور، وإنما لتفزع العراقيين. وهذا شيء أقوله من تجاربي الشخصية.
كنت أشعر في كل زيارة لبغداد برعب حقيقي وقلق كلما جلست في بهو فندق أو محطة حافلات، ورأيت صورة الرئيس الضخمة تهيمن عليّ من فوق وتبحلق في وجهي. وكنت أضطر في أكثر الأحيان لتغيير مكاني بحيث لا تقع عيناه عليّ. كانت تذكرني برواية جورج أورويل «أخوك الكبير يراقبك!». كنت أحاول أن أبدد قلقي بتذكير نفسي أن ما أراه أمامي مجرد ورقة ملونة.
كان هذا هو الغرض من وراء كل هذه الصور والتماثيل. إن من يتصورون أنها إضاعة لأموال الدولة مخطئون. إنها تقوم بوظيفة اجتماعية واضحة، هي إشاعة الفزع والقلق في نفوس الناظرين. إنها فزاعات!
وقد أخذت هذه الفزاعات المتطورة تخيف الحيوانات، مثلما تخيف البشر. وكان آخر ما سمعت في هذا المجال أن قطيعاً كبيراً من حيوان الضب (ما يسمونه في العراق بأبو بريعصي) شوهد وهو يعدو راكضاً مهاجراً من العراق، فصادفهم ضب من بادية الشام، وتعجب من شأنهم، وبادرهم بالسؤال: «يا أولاد العم، ما خطبكم؟ وما شأنكم؟ ولماذا أراكم هاربين من دياركم؟»، فأجابه أحد عقلائهم: «لم يبق لنا مكان نهجع إليه أو نمشي فوقه! لقد ملأوا وغطوا كل الحيطان بصور رئيسهم». قال لهم الضب الشامي: «ولماذا يا أولاد العم لا تمشون فوق هذه الصور بعد أن ضاقت بكم الحيطان؟»، فأجابه رئيس القطيع، وكان ضباً بليغاً يحسن نظم الشعر الحديث، فقال: «يا سيدي، هذا ما فعلناه، ولكن الناس يمرون في الليل أمام هذه الصور في غياب الشرطة، ويبصقون على الحيطان»!