د. أسعد صالح الشملان
TT

قراءة في قرار الانسحاب العسكري الأميركي من سوريا

لا ينبغي التهويل من الأهمية السياسية والاستراتيجية لقرار الرئيس ترمب في ديسمبر (كانون الأول) الماضي سحب القوات الأميركية (لا تزيد على 2000 جندي) من سوريا. كما لا ينبغي الوقوف كثيراً أمام المنعرجات التي مر بها ذلك القرار منذ ذلك الحين. وسواء تم تنفيذ قرار الرئيس ترمب المثير للجدل، أم تم تأجيل التطبيق الكامل له، فإنه لا يغير شيئاً كثيراً فيما آلت إليه الأمور في سوريا. فمن المفيد الأخذ بالحسبان أن الوجود العسكري الأميركي محدود في سوريا، والأهم من ذلك، أنه منحصر في أجزاء من منطقة شرق الفرات، في حين المناطق الأساسية في تكوين سوريا كوحدة جغرافية - سياسية، حيث المدن والتجمعات السكانية الكبيرة، تقع إلى الغرب من نهر الفرات، وهذه باتت عملياً تحت السيطرة الكاملة لنظام بشار الأسد بفضل الدعم الروسي والإيراني.
فعند النظر إلى الصورة الكبيرة للوضع السوري الراهن، يمكن القول، دون أدنى خشية من السقوط في المبالغة، إن الانتفاضة السورية uprising التي اشتعلت شرارتها قبل ثمانية أعوام قد كسرت، وإن الحرب الأهلية التي تطورت عنها قد انتهت؛ مع ملاحظة أن هذا لا يعني أن الأزمة العضوية للمجتمع والدولة في سوريا قد انفرجت. فنجاح النظام الحاكم في دمشق في كسر الإرادة الجماعية التي نهضت لمنازعته لم يصاحبه نجاح سياسي في تدشين طريق تقود إلى مجتمع متصالح مع ذاته ومع الدولة، ومتجاوزٍ للتناقضات التي فجّرت الانتفاضة الشعبية السورية. بل إن هذه التناقضات تمت إعادة إنتاجها بصورة أكبر وأكثر حدة. فسوريا اليوم يؤطرها المنطق ذاته الذي أنتج الانفجار الشعبي قبل ثماني سنوات وشكّل ديناميته المحركة. لكن هذه التناقضات اليوم تأخذ، بفعل انكسار الانتفاضة دون تحقيق أي من أهدافها، صيغة أشمل وأكثر عمقاً وإن كانت أقل صخباً، حيث أقلية تقف على أرضية سياسية ضامرة، لا قوام لها دون سند خارجي مباشر، وفاقدة للكثير مما كان متاحاً لها في بداية الأزمة من أدوات الشرعية ومصادرها، وتبدو مصرّة على احتكار المقدرات المادية والرمزية للبلاد، والمضي قدماً في توظيف أدوات القوة العارية في مواجهة أكثرية اختزن ضميرها على مدى عقود أن هذا الاحتكار يتم على حسابها ومن خلال حرمانها مما تراه حقوقها الأساسية المشروعة.
لم تكن هزيمة الانتفاضة السورية حتمية، بل إن هذه الهزيمة من وجوه كثيرة أتت عكس ما كان يمكن تقديره عقلانياً بصورة مباشرة في السنوات الأولى للأحداث. فواحدة من المفارقات الكبرى للأزمة السورية، أن القوى الخارجية التي دعمت النظام السوري وضمنت ديمومته، وأنجزت من خلاله كسر الإرادة الجماعية الساعية لإزالته كانت أقل عدداً وأضعف شأناً بالمعايير العالمية للقوة من القوى الخارجية التي أعلنت تأييدها للانتفاضة السورية (روسيا وإيران وتوابعها «حزب الله» وحكومة المالكي في بغداد في مقابل مجموعة أصدقاء سوريا المشكلة من أكثر من 80 دولة، بينها دول تتمتع بقدرات دولية متفوقة، في مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وأخرى ذات أوزان إقليمية راجحة)، لكن مع ذلك خرجت القوى الداعمة للنظام في نهاية المواجهة «منتصرة»! ولا غرابة في ذلك عند الأخذ بالحسبان أن الفارق الحاسم تمثل في أن القوى الخارجية المؤيدة لنظام دمشق كانت أكثر توحداً وتصميماً وإصراراً على الذهاب حتى النهاية في دعمه. هذه واحدة من مفارقات كثيرة أخرى تجعل ضرورياً البحث في أسباب وصول الأوضاع في سوريا إلى ما هي عليه اليوم. وفي هذا السبيل، نحتاج إلى أن نأخذ بعين الاعتبار مسائل كثيرة وتوظيف زوايا نظر متعددة. ولا شك أن التناول التحليلي لبواعث الموقف الأميركي من الأزمة السورية يشكل إحدى زوايا النظر الرئيسية في هذا المسعى.
وفي حقيقة الأمر، فإن المتتبع للخيط الناظم للمقاربة الأميركية للأزمة السورية لن يجد مفاجأة في قرار الرئيس ترمب. فهذا القرار في صلبه جاء متمماً نهجاً هيمن على التناول الأميركي للأزمة السورية منذ بدايتها في مارس (آذار) 2011، ويقوم على أساس احتواء الأزمة السورية والوقوف عند الضغط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي على النظام السوري دون «التورط» العسكري المباشر والحذر المضاعف من «الانزلاق» إلى مثل هذا التورط.
ولا شك أن الكثير من التشويش والخطأ في فهم جوهر الموقف الأميركي من الأزمة يعود إلى تركيز المراقبين على الموقف المعلن لواشنطن منذ الأشهر الأولى لاندلاع الانتفاضة السورية، ومفاده أن «الأسد ينبغي أن يرحل»، وإغفال أن الإطار الضابط أميركياً لهذا الموقف يتمثل في أن الولايات المتحدة ينبغي ألا تتورط بشكل مباشر على الأرض لتحقيق هذا الهدف، حتى وإن كان ذلك على حساب الوصول للهدف ذاته. وكان أن أنشأ هذا الموقف إطاراً حكمه تناقض داخلي استمر طوال الأزمة. فموقف القوى السورية والإقليمية الداعمة للتغيير المنشود شعبياً في سوريا كما تبلور بعد نهاية السنة الأولى للانتفاضة ذهب باطراد إلى أن التغيير لا يمكن أن يتم دون تغيير النظام، وأن هذا - بسبب شراسة حاكم دمشق - بات يتطلب مغالبة عسكرية على الأرض؛ وهو تقدير صائب بالنظر إلى طبيعة بنية النظام السوري وتركيبته. لكن الخطأ التحليلي المكلف لقوى الانتفاضة ومؤيديها تمثل في إغفال أن المطالبة الأميركية برحيل الأسد كانت تقوم على سياسة إطارها احتواء الأزمة، ومنع تمددها والنظر إلى أي تدخل ذي طبيعة عسكرية، وإن كان محدوداً، باعتباره منزلقاً Slippery Slope لتورط كبير. وكان أن استعاضت واشنطن بدلاً من توظيف الأداة العسكرية لتحقيق أهدافها، بالأمل أن الضغط الدبلوماسي والمعنوي والاقتصادي كفيل بإقناع النظام بتقديم التنازلات المؤدية لإحداث تغيير في سوريا يتناغم مع التطلعات الشعبية، ولا يتناقض مع مصالحها الأساسية.
ومن الضروري التسجيل أن هذا الموقف الأميركي القائم على التفكير بالتمني والمتسم بفجوة ازدادت مع الوقت اتساعاً بين الأهداف والوسائل الكفيلة بالوصول إليها، والسلبي في المحصلة النهائية، تجاوز في نطاقه إدارة أوباما، حيث ألقى بظلاله حتى على أكثر المواقف اندفاعاً داخل الكونغرس. فلجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، التي وقف بعض أعضائها، مثل السيناتور الراحل جون ماكين، في موقع متقدم جداً على الإدارة فيما يخص دعم الانتفاضة السورية، في صياغتها قانون «دعم الانتقال في سوريا» الذي قدمته إلى الكونغرس. فهذا القانون على الرغم من عدم إلزاميته للإدارة، إلا أن القائمين عليه حرصوا على التأكيد فيه أن الدعم المنشود لا يشكل إذناً باستخدام القوات المسلحة الأميركية بما في ذلك الاشتراك في فرض حضر جوي أو حماية ملاذات آمنة داخل الأراضي السورية. وضاعف من تعزيز هذه المقاربة الأميركية أنها عكست موقفاً له حضور وتأييد شعبي ونخبوي واسع على الساحة الأميركية.
من المهم للوصول إلى تقدير استراتيجي متكامل للدور الأميركي في المسألة السورية، عدم التسليم بصحة الوصف الشائع للموقف الأميركي بأنه كان غير متفاعل (Disengaged) مع الأزمة السورية. فحقيقة الأمر عند التفحص الدقيق لهذا الموقف يتبين أن الولايات المتحدة كانت نشطة وحريصة على أن يكون لها دور أساسي في تحديد مسار الأزمة السورية. فعلى سبيل المثال، اهتمت الولايات المتحدة بأخذ دور القيادة داخل «مجموعة أصدقاء سوريا» الذي نشأ في بديات عام 2012 لغرض تنسيق الدعم الدولي للانتفاضة السورية. فلقد نشطت الدبلوماسية الأميركية داخل هذه المجموعة في وضع الأجندة وإرساء طرق العمل ووضع السقوف لما يمكن أن يعمله أنصار الانتفاضة السورية. لكن المراقبين للحدث السوري أخطأوا في قراءة جوهر هذا النشاط، أو البواعث الأساسية التي تحركه. فلقد ركز هؤلاء المراقبون على الموقف الأميركي المعلن في أن الأسد ينبغي أن يرحل، وأغفلوا أن الإطار الضابط أميركياً لهذا الموقف يتمثل في حسابات مسبقة أن الولايات المتحدة ينبغي ألا تسمح بما يمكن أن يؤدي إلى الزج بها، ولو بعد حين، بشكل مباشر على الأرض لتحقيق هذا الهدف، حتى وإن كان ذلك على حساب الوصول إلى الهدف ذاته. وكان لهذه الحسابات الأميركية؛ نظراً للدور الذي حرصت عليه الولايات المتحدة في إدارة الأزمة، أهمية حاسمة في تحديد المدى الذي يمكن أن تبلغه الأطراف الخارجية، وخصوصاً الإقليمية منها، في دعمها الانتفاضة السورية. وبما أن المنطقة الإقليمية التي تشكل سوريا جزءاً منها تفتقد للخبرة في العمل الفعال المتعدد الأطراف ذي الأبعاد العسكرية والأمنية دون قيادة أميركية؛ فلقد ساد الارتباك المساعي الإقليمية لدعم الانتفاضة السورية، وأضعف في المحصلة النهائية القدرة على إزاحة النظام الحاكم في دمشق.
* معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية