جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

القاهرة بعد 14 عاماً

في الثاني والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) من عام 2004، أي بعد شهر من انضمامي إلى أسرة «الشرق الأوسط» بلندن، نشر لي أول مقال في ملحق السياحة، الذي ترأسته، والذي اعتبرته كطفل مدلل اعتنيت بجميع تفاصيله. وأذكر الموضوع الأول الذي كتبته عن السياحة، وكان عن زيارتي الأولى لأم الدنيا مصر، وتحديداً القاهرة، كانت المرة الأولى التي أسافر فيها لتغطية حدث سياحي في الصحيفة، وكانت الأسطر الأولى التي عبرت فيها عن تلك الوجهة المذهلة، وبدأت كلماتي بـ«من منا لا يحلم بزيارة مصر (أم الدنيا)، كنت أنا واحدة من الحالمات بذلك الميعاد الذي يجمعني مع حقبات غنية، مع قصص الفراعنة، وزيارة المعالم الأثرية الشهيرة التي تشكل عصب الحياة والعامود الفقري لمصر أم الحضارات ومهد الثقافة والعلوم...».
بهذه الكلمات نسجت الموضوع الذي حوكته بعشق وشغف لأكثر من سبب، السبب الأول لأثبت مكانتي في الكتابة المتخصصة، لأنها كانت المرة الأولى التي تصدر فيها صحيفة عربية ملحقاً من 4 صفحات مخصصة لهذا النوع من الكتابة، والسبب الثاني هو أني كنت دائماً أحلم بزيارة مصر، وعندما تحقق الحلم وجدت نفسي تحت وابل من المسؤولية، لأن الكتابة عن مدينة مثل القاهرة ليس بالسهل أبداً.
واليوم، بعد 14 عاماً و3 أشهر و6 أيام، أكتب من جديد عن مدينة الفراعنة والفكر وخفة الدم بعد زيارة ثانية إليها.
في المرة الأولى، قارنت ما رأته عيناي بما كنت أعرفه عن القاهرة من خلال الأفلام المصرية الشهيرة التي كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة اللبنانيين، ولكن هذه المرة قارنتها بما رأيته فيها منذ سنوات، وبعد أن مرت المدينة بعدة فصول، أهمها «الربيع»، فوجدت أنها ما زالت مدينة نابضة بالحياة، وليلها لا يضاهيه ليل، وشعبها طيب ومضياف ومحب للأجانب، طرقاتها معبدة بالسيارات لكثرة زحمة السير فيها، وما أن ينتهي اليوم حتى يبدأ مشهد جديد يختلف تماماً عن المشهد النهاري، فليل القاهرة هو عالم بحد ذاته، فشارع المعز والتراث الذي يعشش في أبنيته، وصوت أم كلثوم الذي يصدح في الأزقة وعلى المقاهي له رونقه الخاص، والمشي باتجاه خان الخليلي وسماع كلمات الغزل اللطيفة من الباعة الذين يبرعون في الغزل بأكثر من لغة، والنيل والسهر على قواربه الثابتة والمتحركة له طعم خاص، هذه هي باختصار القاهرة التي لم يؤثر ربيعها على جمالها ومفرداتها الخاصة بها، ولكن ما لاحظته هذه المرة وللأسف هو عدم وجود العدد الكافي من أصحاب الشعر الأصفر، فالقاهرة التي تعرفت عليها في الماضي كانت بمثابة زهرة يحوم حولها النحل الأجنبي لتذوق عسلها ومعسلها، أما اليوم فتدنى عدد السياح بشكل كبير جداً، كما أن التردي الاقتصادي وتراجع العملة وتأثرها بكل ما من حولها واضح من التعب الجلي على وجوه الشعب الذي لا يزال يتحلى بروح الدعابة والفكاهة، ولو أن تقاسيم الوجه تحكي قصة مختلفة تماماً، فالفقر وضيق العيش لا يمكن إغفالهما، ولكن أجمل ما رأيت في شعب القاهرة هو حبهم للحياة، على الرغم من قساوتها.
في القاهرة وجهان، الوجه الذي أهلكه الفقر ورسم عليه الخطوط بالعرض والطول، والوجه الآخر هو وجه الغنى ورائحة الثراء المنبعثة من أجمل الفنادق التاريخية في المدينة التي تحكي كل زاوية منها قصة وجلسة للملوك والأمراء والعظماء. ولكن في المقابل، من المؤذي للعين رؤية المنطقة المحيطة بالأهرامات الشامخة مهملة، ولو كان لأبي الهول صوت لصرخ بأعلاه، وقال: «الرجاء عدم رمي النفايات».
عدم الاهتمام بالمعالم السياحية العملاقة، ليس مشكلة مصر فقط، إنما هو للأسف مشكلة معظم الدول العربية، التي تطبق المقولة الشعبية: «الله يعطي اللحمة لمن ليست له أسنان».
ولكن في النهاية، وبعد أن طال موعد لقاء المدينة التي أحبها، آمنت بالقول الشهير: «من يشرب من ماء النيل لا بد أن يعود إليه»، فعلى أمل لقاء قريب في جوهرة الشرق.