حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الدرس النيوزيلندي الأهم!

يعتبر المطبخ الفرنسي أهم وأشهر مطابخ الطعام في العالم، ويفتخر الطهاة فيه بأسلوبهم وطرقهم. ولكن شيئاً ما حصل في عام 1965، عندما قام الطاهي الأسطوري بول بوكوز، ابن مدينة ليون الفرنسية، وهو صاحب النجمات الثلاث من تقييم «ميشلان»، وهو أعلى تقييم يحلم بالحصول عليه أي طاهٍ، بزيارة مدينة أوزاكا اليابانية، وتعرف هناك على «الكايسيكي»، وهو قمة ما توصل إليه المطبخ الياباني، وأهم ما فيه.
«الكايسيكي» ليس بطبق محدد، ولا مقادير وأسلوب، ولكنه إطار شكلي لتقديم الوجبة، يعتمد على أكثر من اثني عشر من الصحون الصغيرة، وهو يعتمد على الإرث القديم للعادة المقدسة لدى اليابانيين في تقديم احتفالية الشاي، التي لها لمسات جمالية من التراث الفني الياباني الأصيل، كتزيين النباتات والخط.
رأى بوكوز شيئاً أبهره في «الكايسيكي»؛ شيئاً مختلفاً تماماً عن النمط التقليدي في المطبخ الفرنسي... لفت نظره أكثر من كل ما يقدمه المطبخ الياباني، من سوشي وساشيمي ونابنياكي وتمبورا وهاباتشي وتيرياكي. عاد إلى فرنسا، وأطلق شكلاً جديداً للمطبخ الفرنسي، وإليه يعود الفضل في «النوفيل كوزين» في فرنسا. إنه الثراء الثقافي، وتنوع الحضارات، والانفتاح على الآخر. إنه القبول، والاستفادة من الآخر، والتعلم بلا عنصرية ولا فوقية ولا تميز.
تذكرت هذه القصة (وغيرها كثير) وأنا أراقب وأتابع، مثل غيري، أحوال المسلمين في نيوزيلندا، بعد الحادث الإرهابي البشع الذي تعرضوا إليه، وكم هي مفرحة تلك الروح الإيجابية التي ظهروا بها، وبشكل حضاري وعقلاني، ليثبتوا للناس أنهم مواطنون في دولة مدنية يحكمها القانون، والقضاء سيد فيها. لن يلجأ أحد منهم للعنف الفردي، أو الانتقام اللفظي، بل إن أكثر من شخص أبدى روحاً عظيمة للعفو والسماح عن الإرهابي المجرم. وفكرت جلياً كيف أثر «مناخ» نيوزيلندا الأخلاقي المتسامح على نفسية المهاجرين المسلمين إليها، لأنني لم أستطع منع نفسي من التفكير، كيف كانت ستصبح ردة الفعل للحادثة ذاتها، ومن الشخص نفسه، في دولة مثل إيران أو باكستان، المعروفتين بالتشدد والتعصب، وبانتشار خطاب الكراهية فيهما.
الدروس النيوزيلندية لا تزال متواصلة. حجم التسامح «الحقيقي والعملي»، وليس بالكلمات والشعارات، الموجود في نيوزيلندا، الذي ظهر من القيادة السياسية والشعب في آن واحد، يؤكد أن أي شعار يرفع عن مكافحة التشدد، والدعوة إلى التسامح، إذا لم تظهر آثاره في الداخل، وبين أفراد المجتمع المحلي نفسه، فذلك يعني أن ما يروج للخارج ما هو إلا بضاعة فاسدة، وهذا هو الدرس النيوزيلندي الأهم، الذي تقدمه هذه الدولة الساحرة للعالم بأسره، وهو درس قيم، ولا يمكن الإقلال من قيمته أبداً.
الانفتاح على الحضارات والثقافات سنة كونية، خلقها الله للتعارف، والتقوقع هو حالة مرضية.