حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«أعرب ما يلي»

الزمن أوائل سبعينات القرن الماضي.. تضج بيروت برائعة المخرج اللبناني يعقوب شدراوي «أعرب ما يلي» التي عرضت عدة أشهر على خشبة «مسرح بعلبك» في بيروت، وهي عمل ثقافي مسرحي لافت يقدم للمشاهد خريطة العالم العربي، وكيف يتم تمزيقها. من وعد بلفور إلى قرار التقسيم واقتلاع العرب الفلسطينيين لإعلان قيام الكيان الصهيوني، وقبل ذلك «إهداء» المستعمر الفرنسي لواءَ الإسكندرون إلى تركيا أتاتورك. حتى اليوم ما زالت إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم من دون حدودٍ نهائيةٍ، فتضم القدس الشرقية فور احتلالها في عام 1967، وتطلق أوسع عملية استيطان في الضفة الغربية المحتلة، وما زالت تتواصل، ويتخذ الكنيست في عام 1981 قراراً بوضع هضبة الجولان السورية المحتلة تحت «القوانين والقضاء والإدارة الإسرائيلية»، وفي 25 مارس (آذار) 2019 يوقع الرئيس الأميركي ترمب إعلاناً يضفي شرعية أميركية على الضم النهائي للجولان متجاوزاً مضمون قرار الكنيست!!
برّر الرئيس الأميركي إعلانه بأن الولايات المتحدة تعترف اليوم «بحقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في مواجهة التحديات الأمنية»، فيشرع الإعلانُ الاحتلالَ، وتضرب أميركا بالقانون الدولي عرض الحائط، متجاهلة أنه يحظر ضمّ أراضٍ بالقوة، ويحظر أيضاً أي قرار أحادي الجانب بتغيير الحدود يتنافى مع أساس النظام العالمي القائم على معايير حددتها الشرعية الدولية. ويبتهج نتنياهو بـ«الهدية» الأميركية، وهو في حمأة انتخابات مصيرية، فيعلن «انتظرنا نصف قرن لتحويل النصر العسكري إلى نصر دبلوماسي»، ممتدحاً القرار الذي يحقق العدل لإسرائيل (...)، ويضيف أن «أي اتفاق سلام يجب أن يضمن أمن إسرائيل»، ما يعني أن ملف التوسع الصهيوني لن يتوقف، بعدما أسقط الإعلان الأميركي مبدأ «الأرض مقابل السلام» الذي رفعه العرب في قمة بيروت 2002، وربما المسألة أبعد من ذلك، فواشنطن التي نقلت سفارتها إلى القدس، ثم شرّعت احتلال الجولان، تريد خلق وقائع على الأرض تمهيداً لما بات يُعرف بـ«صفقة القرن»!!
لقد ضاعت هضبة الجولان في حرب عام 1967، عندما أُعلن من الراديو عن احتلالها قبل أن تُحتل، ليتكرس ذلك في اتفاقية فصل القوات بعد حرب عام 1973، فثبّتت الاتفاقية حدود الاحتلال، وتولى النظام السوري الحماية الفعلية لتلك الحدود، أما المواجهة لاستعادة الأرض فاقتصرت على الخطب والأناشيد، وضاع الجولان في المفاوضات بين سوريا والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة برئاسة بيريز ورابين وباراك وأولمرت ونتنياهو، وكانت المرحلة الأبرز التي جرت بوساطة الرئيس الأميركي كلينتون عام 1999، وكادت تنجزُ حلاً اصطدم في اللحظات الأخيرة ببضعة أمتار تفصل بين الهضبة وبحيرة طبريا (...). كما ضاع الجولان في التفاهمات الروسية الإسرائيلية للمنطقة المحتلة وجنوب سوريا، وضاع في حرب النظام على شعبه منذ عام 2011.
في خريف العام الماضي برزت بقوة مخاطر التفاهمات الروسية - الإسرائيلية، والروسية - التركية، وكان جلياً أنه كلما ابتعدت التسوية باتت إمكانية تحول مناطق النفوذ إلى تقسيم واقعي، وتزايد القلق على مصير الجولان وإدلب، خصوصاً أن اتفاقات الجنوب بدت كأنها طوت صفحة المطالبة السورية باستعادة الجولان، وبالمقابل فإن إردوغان كان يتحين الفرصة ليقبض من الروس ثمن تغطيته المتواصلة للدور الروسي، والعين التركية بعد الإسكندرون على إدلب... والأكيد أن ما تقدم، معطوفاً على استقدام النظام السوري الجيوش والميليشيات لقتل السوريين، كلها عناصر تضافرت ومهدت لقرار البيت الأبيض، وهو قرار رفض اتخاذه كل الرؤساء الأميركيين قبل ترمب؛ من عام 1984 يوم صادق الكونغرس على قرار الكنيست الإسرائيلي بشأن الجولان.
إلى المنحى الصهيوني بمزيد من التوسع بذريعة «الأمن»، فإن هضبة الجولان تعتبر موقعاً استراتيجياً، وتشكل منطقة سياحية، والأهم من ذلك تُعدُّ مصدراً رئيسياً للمياه العذبة التي تغذي بحيرة طبريا، الخزان الاستراتيجي الذي يمد إسرائيل بنحو ثلث احتياجاتها المائية، وباتت منطقة سياحية، وفي عام 1999 حين طرحت في المفاوضات مبدأ استئجار الهضبة لمدة 15 سنة كان عنوان المياه طاغياً، واليوم مع القرار الأميركي الخطير بتشريع الاحتلال، الخطر حقيقي وكبير أن تنتقل أطماع إسرائيل خطوة أبعد باتجاهين؛ الأول ضم نهائي لمزارع شبعا المحتلة، والثاني ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية في الضفة الغربية.
صحيح أن مزارع شبعا التي تبلغ مساحتها 22 كيلومتراً مربعاً قد احتلت في حرب عام 1967 من دون قتال، وقد سيطر عليها الجيش الإسرائيلي بعد اكتشاف نقاط لقوات الدفاع العربية المشتركة، وتصر تل أبيب على أنها أراضٍ سورية، ولم يشملها القرار 425 المتعلق بالاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وبالتالي لم تنسحب منها إسرائيل في عام 2000 يوم أخلت الجنوب المحتل، ويمتنع النظام السوري عن تلبية طلب لبنان بترسيم الحدود، فإن هذه المنطقة المجاورة للجولان تقع في سفح جبل الشيخ، أكبر ثاني خزان مائي في شرق المتوسط، بعد خزان صنين - الأرز، ومنه تتفجر ينابيع بانياس والدان والوزاني، وهي المصادر الرئيسية التي تغذي نهر الأردن، ويمنع لبنان من الاستفادة منها إلاّ بما هو يسير جداً. وضمن كل المعطيات الراهنة، لا سيما إزاء ما يقوم به ملالي طهران للهيمنة والسيطرة، الخوف يجب أن يكون حقيقياً من أن تكون المزارع الضحية الثانية على لائحة الأطماع الإسرائيلية إذا نجح العدو في هضم مسألة الجولان سريعاً. ومن غير المستبعد أبداً أن فوز نتنياهو سيضع على الطاولة مسألة ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية إلاّ الكتل السكانية الفلسطينية، لأنه مع القانون العنصري عن يهودية الدولة سيسعى الصهاينة لتخفيف أعداد الفلسطينيين من عرب عام 1948، وبالتالي ليس وارداً ضم فلسطينيين إضافيين.
موعدان مهمان لمعرفة منحى الأمور، الأول هو القمة العربية في تونس، وكيف تعاطى القادة العرب مع الحدث الجلل، والموعد الثاني اجتماع مجلس الأمن الذي سيبحث التجديد للقوة الدولية في الجولان (الإندوف)، وماذا سيكون عليه موقف النظام السوري ورعاته... حتى ذلك الوقت يستمر زمن كسر المنطقة العربية لمصلحة أطماع القوى الإقليمية؛ إسرائيل وتركيا وإيران، وتستمر السلطات اللبنانية بالتعامي والتجاهل وترك المنطقة لـ«حزب الله» ومن خلفه النظام الإيراني!!