توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

هكذا خرج العقل من حياتنا

أدهشني أن بعض الناشطين في التيار الديني، لم يرضَ بالإطراء الذي نالته رئيسة الحكومة النيوزيلندية، نظير موقفها التضامني مع مواطنيها المسلمين، إثر فاجعة مسجد النور منتصف مارس (آذار) الماضي. وقال بعض الناقدين إن موقف رئيسة الحكومة سياسي في المقام الأول. وقال آخرون إن عينها على الانتخابات، أو إنه تعبير عن موقف آيديولوجي للتيار اليساري الذي تنتمي إليه، في مقابل اليمين المتطرف الذي ينتمي إليه القاتل. وسمعت قولاً طريفاً لأحدهم فحواه أنه كان الأولى دعوتها إلى الدين الحنيف بدل امتداحها، فلعل الله يشرح صدرها للإسلام. وأطرف منه من كتب أن السيدة الجليلة لا تستحق المدح، لأنها «كافرة سافرة، قبلت ولاية لا تسوغ لجنسها».
ورأيي أن تلك الأقوال باطلة جملة وتفصيلاً. في ذاتها وفي أرضيتها الفلسفية. لكن موضع اهتمامي ليس هنا. بل لأنها ذكرتني بجدل قديم اشتهر باسم «مسألة الحسن والقبح العقليين». وقد أثيرت في الإطار الإسلامي خلال القرن الثامن الميلادي، مع أنها ترجع إلى أزمان أبعد بكثير. وكانت تدور حول قابلية العقل لإدراك الحقيقة وتمييزها عن الوهم.
ركز الجدل الإسلامي على سؤال: هل في الأفعال معنى وقيمة ذاتية، يمكن للعقل اكتشافها وتحديدها؟ أم أن تحديد معنى الفعل وقيمته، متروك للشارع، إن شاء اعتبره حسناً، وإن شاء اعتبره قبيحاً؟ كانت الغلبة يومذاك للرأي القائل بعجز العقل عن تحديد الوجه الشرعي للحسن والقبح. ومعنى هذا أنه يمكن لعقلك اكتشاف أن العدل حسن، وأن الظلم قبيح، لكنه لا يستطيع القول إن هذا القبح أو ذلك الحسن له قيمة، أو يمكن أن يكون أساساً لأمر شرعي. هذه الفكرة هي أساس نفي العقل واستبعاده، ليس عن دائرة التشريع فحسب، بل عن حياة المسلمين ككل.
إن السبب الذي يدعوني للتذكير بهذا الجدل اليوم، هو اعتقادي بأن عدم ثقة المسلمين بالعقل وقدرته ودوره، هو الذي قاد إلى الانفصال المشهود بين الدين والحياة، بين الدين والأخلاق، بين الدين والقانون، وهو الذي جعل المسلمين مضطرين للعيش حياة مزدوجة: عقلانية تماماً في محيط العمل، حيث يستعملون منتجات العقلاء وأجهزتهم وأنظمتهم، وخرافية كلياً أو جزئياً حين يعودون إلى حياتهم العادية، أو يعملون في إطار تقاليدهم الثقافية وإرثهم القيمي.
منذ أن أصبح العقل هامشياً في حياتنا، فقد بات ممكناً أن يأتينا شخص ليقول إن عقولكم لا تستطيع اكتشاف الحقائق، أو لا تستطيع تحديد معناها وقيمتها. وحتى لو كنتم أذكياء بما يكفي لفهم حقيقة الأشياء، فإن ذكاءكم واجتهادكم لا قيمة له عند الشارع. الشارع هو الذي يحدد قيمة الأفعال، أما أنتم فدوركم مقصور على السمع والطاعة دون تفكير أو مناقشة.
إني أعجب، لأن فينا من لا يزال يقول إن دين الله لا يدرك بالعقول، فإذا جادلته، أعاد عليك الحجة التي عمرها مئات السنين، والقائلة إنه لو كان الدين بالعقل فما الأساس العقلي للمسح على ظاهر القدم دون باطنه، وما الأساس العقلي لجعل هذه الصلاة ركعتين وتلك ثلاث ركعات، وأمثال ذلك من الحجج الباردة.
إني آمل أن يشاركني القراء الأعزاء في إظهار الأسف لتعطيل العقل باسم الدين. مع علمنا جميعاً بأنه لولا العقل لما كان ثمة حياة ولا دين ولا تكليف ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار. ولعلنا نعود إلى الموضوع في مقبل الأيام.